الآيات 1-10من سورة عبس

مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي اثنتان وأربعون آية في الكوفي والمدنيين واحدى وأربعون في البصري.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَن جَاءهُ الْأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾

القراءة:

قرأ عاصم وحده (فتنفعه الذكرى) بالنصب على أنه جواب (لعل) فجرى مجرى جواب الأمر والنهي، لان (لعل) للترجمي فهي غير واجبة، كما أن الامر غير واجب في حصول ما تضمنه. الباقون بالرفع عطفا على (يذكر). وقرأ نافع وابن كثير (تصدى) مشددة الصاد على أن معناه تتصدى فأدغم، إحدى التائين في الصاد لقرب مخرجهما. الباقون (تصدى) بتخفيف الصاد باسقاط إحدى التائين. وقرأ ابن أبي بزة وابن فليح عن ابن كثير (تلهى) بتشديد اللام بمعنى تتلهي، فأدغم احدى التائين في اللام. الباقون بتخفيف اللام وحذف احدى التائين يقول الله تعالى (عبس وتولى) ومعناه قبض وجهه وأعرض، فالعبوس تقبض الوجه عن تكره، والعبوس البسور وهو التقطيب وعبس فلان في وجه فلان مثل كلح، ومنه اشتق اسم عباس، ومعنى (تولى) أعرض وذهب بوجهه عنه فصرفه عن أن يليه يقال: تولى عنه بمعنى أعرض عنه، وتولاه بخلاف تولى عنه، فان تولاه بمعنى عقد على نصرته، وتولى عنه أعرض. وقوله (أن جاءه الأعمى) معناه عبس لان جاءه الأعمى، وقال ابن خالويه: تقديره إذ جاءه الأعمى المراد به عبد الله بن أم مكتوم - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد - وقال الفراء: كانت أم مكتوم أم أبيه. وقال غيره: كانت أمه. وقال ابن خالويه أبوه يكنى أبا السرج. واختلفوا فيمن وصفه الله تعالى بذلك، فقال كثير من المفسرين وأهل الحشو: إن المراد به النبي صلى الله عليه وآله قالوا وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله كان معه جماعة من أشراف قومه ورؤسائهم قد خلا بهم فاقبل ابن أم مكتوم ليسلم فأعرض النبي صلى الله عليه وآله عنه كراهية أن تكره القوم إقباله عليه فعاتبه الله على ذلك. وقيل: إن ابن أم مكتوم كان مسلما، وإنما كان يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وهو لا يعلم أن رسول الله مشغول بكلام قوم، فيقول يا رسول الله. وهذا فاسد، لان النبي صلى الله عليه وآله قد أجل الله قدره عن هذه الصفات، وكيف يصفه بالعبوس والتقطيب، وقد وصفه بأنه (على خلق عظيم) (1) وقال (ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك) (2) وكيف يعرض عمن تقدم وصفه مع قوله تعالى (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (3) ومن عرف النبي صلى الله عليه وآله وحسن أخلاقه وما خصه الله تعالى به من مكارم الأخلاق وحسن الصحبة حتى قيل إنه لم يكن يصافح أحدا قط فينزع يده من يده، حتى يكون ذلك الذي ينزع يده من يده. فمن هذه صفته كيف يقطب في وجه أعمى جاء يطلب الاسلام، على أن الأنبياء عليهم السلام منزهون عن مثل هذه الأخلاق وعما هو دونها لما في ذلك من التنفير عن قبول قولهم والاصغاء إل دعائهم، ولا يجوز مثل هذا على الأنبياء من عرف مقدارهم وتبين نعتهم. وقال قوم: إن هذه الآيات نزلت في رجل من بني أمية كان واقفا مع النبي صلى الله عليه وآله، فلما اقبل ابن أم مكتوم تنفر منه، وجمع نفسه وعبس في وجهه وأعرض بوجهه عنه فحكى الله تعالى ذلك وانكره معاتبة على ذلك. وقوله (وما يدريك) خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وتقديره (قل) يا محمد (وما يدريك لعله يزكى) وإنما أضاف العبوس إلى النبي صلى الله عليه وآله من أضاف (وما يدريك) أنه رآه متوجها إليه ظن أنه عتب له دون أن يكون متوجها إليه على أن يقول لمن فعل ذلك ويوبخه عليه. ومعنى قوله (يزكى) أي يتزكى بالعمل الصالح، فأدغم التاء في الزاي، كما أدغمت في الذال في قوله (يذكر) ومعناه يتذكر، ولا يجوز وإدغام الزاي في التاء، لأنها من حروف الصفير، وهي الصاد والسين والزاي. وقوله (أو يذكر) معناه أو يتذكر ما أمره الله تعالى به، ويفكر فيما أمره بالفكر فيه. وقد حث الله تعالى على التذكير في غير موضع من القرآن فقال) وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين) (4) وقال (إنما يتذكر أولو الألباب) (5) وينبغي للانسان أن يستكثر من ذكر ما يدعو إلى الحق ويصرف عن الباطل. ثم بين انه متى يذكر (فتنفعه الذكرى) أي الفكر فيما أمره الله به من القرآن وغيره من الأدلة. وقوله (أما من استغنى) معناه أما من كان غنيا أو وجدته موسرا، فالاستغناء الاكتفاء بالامر فيما ينفي الضرر وقد يكتفى الاناء في ملئه بما فيه، فلا يستغني استغناء في الحقيقة. وقوله (فأنت له تصدي) فالتصدي هو التعرض للشئ كتعرض العطشان للماء. وأصله الصدى، وهو العطش. ورجل صديان أي عطشان والصدى الصوت الذي يرده الجبل أو الحمام ونحوهما، قال مجاهد: المراد ب? (من استغنى) عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة. وقال سفيان: نزلت في العباس، فقال الله تعالى (وما عليك ألا يتزكى) أي قل له وما عليك ألا يتزكى، فالتزكي هو التطهر من الذنوب، واصله الزكاء وهو النماء، فلما كان الخير ينمي للانسان بالتطهر من الذنوب كان تزكيا. ثم قال (وأما من جاءك يسعى وهو يخشى) يعني عبد الله بن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه اله، وهو يخشى معصية الله والكفر، والخشية هي الحذر من مواقعة المعصية خوفا من عقاب الله تعالى (فأنت عنه تلهى) أي تعرض عنه فالتلهي عن الشئ هو التروح بالاعراض عنه والتلهي به التروح والاقبال عليه ومنه قولهم إذا استأثر الله بشئ فاله عنه أي اتركه وأعرض عنه.


1- سورة 68 القلم آية 4.

2- سورة 3 آل عمران آية 159.

3- سورة 6 الانعام آية 52.

4- سورة 51 الذاريات آية 55.

5- سورة 23 الرعد آية 21 وسورة الزمر آية 9.