الآيات 26-33 من سورة النازعات

قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى، أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا، أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا، وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا، مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾

يقول الله تعالى بعد ما ذكر ما تقدم من قصة موسى وفرعون وما فعله الله بقوم فرعون من الاهلاك والدمار (إن في ذلك لعبرة) يعني فيما قصه واخبر به دلالة يمكن أن يعتبر بها العامل العاقل، فيعرف الحق ويميز بينه وبين الباطل، يقال: اعتبرته اعتبارا وعبرة، ومنه العبارة لأنه يعبر بالمعنى فيها إلى نفس المخاطب للأفهام، ومنه عبور النهر وتعبير الرؤيا باخراج ما فيها بعبورها المعنى إلى النفس السائلة عنها. وقوله (لمن يخشى) إنما خص من يخشى بالعبرة، لأنه الذي يعتبر بها وينتفع بالنظر فيها دون الكافر الذي لا يخشى عذاب الله، كما قال (هدى للمتقين) (1). ثم خاطب الكفار الجاحدين بالله تعالى على وجه التبكيت لهم والتوبيخ (أأنتم أشد خلقا) ومعناه أأنتم أشد أمرا بصغر حالكم (أم السماء) في عظم جرمها وشأنها في وقوفها وسائر نجومها وأفلاكها. قال بعض النحويين (بناها) من صلة السماء. والمعنى أم التي بناها. وقال آخرون (السماء) ليس مما يوصل، ولكن المعنى أأنتم أشد خلقا أم السماء أشد خلقا. ثم بين كيف خلقها فقال (بناها) والله تعالى لا يكبر عليه خلق شئ أشد من خلق غيره، وإنما أراد أنتم أشد خلقا عندكم وفى ظنكم مع صغركم أم السماء مع عظمها وشدة إحكامها؟وبين انه تعالى بنى السماء و (رفع سمكها) يعني ارتفاعها، فالسمك مقابل للعمق، وهو ذهاب الجسم بالتأليف في جهة العلو، وبالعكس منه العمق. والطول ذهاب الجسم في جهة الطول. والعرض ذهابه في جهة العرض، وهو بالإضافة إلى ما يضاف إليه. وقوله (فسواها) فالتسوية جعل أحد الشيئين على مقدار الاخر على نفسه أو في حكمه، وكل ما جعل في حقه على ترتيبه مع غيره فقد سوي، فلما كان كل شئ من السماء مجعولا في صفة على ترتيبه مع غيره كانت قد سويت على هذا الوجه. وقوله (واغطش ليلها) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد: معناه أظلم ليلها. وقال أبو عبيدة: كل أغطش لا يبصر. وقال: ليلها أضاف الظلام إلى السماء لان فيها ينشأ الظلام والضياء بغروب الشمس وطلوعها على ما دبرها الله. وقوله (واخرج ضحاها) قال مجاهد والضحاك أخرج نورها. وقوله (والأرض بعد ذلك دحاها) قال مجاهد والسدي: معناه دحاها مع ذلك، كما قال (عتل بعد ذلك) أي مع ذلك. وقال ابن عباس: ان الله دحا الأرض بعد السماء، وإن كانت الأرض خلقت قبل السماء، ومعنا دحاها بسطحها دحا يدحو دحوا ودحيت ادحي دحيا لغتان، قال أمية بن أبي الصلت:

دار دحاها ثم أعمر بابها * واقام بالأخرى التي هي أمجد (2)

وقال أوس بن حجر:

ينفي الحصا عن جديد الأرض مبترك * كأنه فاحص أو لاعب داح (3)

وقوله (اخرج منها) يعني من الأرض (ماءها) يعني المياه التي تخرج من الأرض وفيها منافع جميع الحيوان، وبه قوام حياتهم كما قال (وجعلنا من الماء كل شئ حي) (4) (ومرعاها) أي واخرج المرعى من الأرض، وهو النبات الذي يصلح أن ترعاه الماشية، فهي ترعاه بأن تأكله في موضعه، رعت ترعى رعيا ومرعى، وسمي النبات الذي يصلح أن يرعى به. وقوله (والجبال أرساها) أي وأثبت الجبال في الأرض. والارساء الاثبات بالثقل. فالسفينة ترسو أي تثبت بثقلها فلا تزول عن مكانها، وربما أرست بالبحر بما يطرح لها. فأما الجبال فإنها أوتاد الأرض، وأرسيت بثقلها، وفى جعلها على الصفة التي هي عليها أعظم العبرة. وقوله (متاعا لكم ولأنعامكم) أي خلقنا ما ذكرناه من الأرض وما يخرج منها من المياه والمراعي نفعا ومتعة تنتفعون بها معاشر الناس وينتفع بها أنعامكم: الإبل والبقر والغنم، ففي الأشياء التي عددها أعظم دلالة وأوضح حجة على توحيد الله، لان الأرض مع ثقلها الذي من شأنه ان يذهب سفلا هي واقفة بامساك الله تعالى، وهي على الماء. ومن شأن الماء أن يجري في المنحدر، وهي وافقة بامساك الله تعالى فقد خرجت عن طبع الثقيل، وذلك لا يقدر عليه غير القادر لنفسه الذي يخترع الأشياء اختراعا، دون القادر بقدرة الذي لا يقدر أن يفعل في غيره إلا على وجه التولية بأن يعتمد عليه، فدل ذلك على أن الفاعل لهذه الأشياء لا يشبه الأشياء ولا تشبهه. وفى اخراج الماء من الأرض عبر لا تحصى كثرة بما فيه من المنفعة، وما له من المادة على موضع الحاجة، وسد الخلة مع ما فيه من المنفعة والتوفيق في السير إلى المكان البعيد بالسهولة، كل ذلك من الله تعالى به على خلقه وأنعم به عليهم. وقوله (متاعا) نصب على المفعول له، وتقديره اخرج منها ماءها ومرعاها للامتاع لكم لان معنى أخرج منها ماءها ومرعاها امتع بذلك.


1- سورة 2 البقرة آية 2.

2- تفسير الطبري 30 / 26.

3- ديوانه 16 ومقاييس اللغة 1 / 230.

4- سورة 21 الأنبياء آية 30.