الآيات 1-14 من سورة النازعات

مكية في قول ابن عباس والضحاك وهي ست وأربعون آية في الكوفي وخمس وأربعون في البصري والمدنيين.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا، وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا، فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا، فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا، يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ، أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ، يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ، أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً، قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ، فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة إلا حفصا (عظاما ناخرة) بألف، الباقون (نخرة) بلا ألف من قرأ (ناخرة) اتبع رؤس الآي نحو (الساهرة، والحافرة) ومن قرأ نخرة - بلا ألف - قال لأنه الأكثر في كلام العرب، ولما روي عن علي عليه السلام انه قرأ (نخرة) وقال النحويون: هما لغتان مثل ياخل وبخل، وطامع وطمع وقال الفراء النخرة البالية والناخرة المجوفة. وقوله (والنازعات) قسم من الله تعالى بهذه الأشياء التي عددها. وقال قوم: تقديره ورب النازعات وما ذكر بعدها، لأنه لا يجوز اليمين إلا بالله تعالى. وهو ترك الظاهر. وقد روينا عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أن لله تعالى أن يقسم بما يشاء من خلقه، وليس لخلقه أن يقسموا إلا به. وإنما كان كذلك، لأنه من باب المصالح التي يجوز أن تختلف به العبادات، وإنما جاز أن يقسم هو تعالى بما شاء من خلقه، للتنبيه على موضع العبرة فيه إذ القسم يدل على عظم شأن المقسم به. ومعنى (النازعات) الملائكة تنزع الأرواح من الأبدان، فالنازعات الجاذبات الشئ من أعماق ما هو فيه. وقال الحسن وقتادة: هي النجوم أي تنزع من أفق السماء إلى أفق آخر. وقال عطاء: هي القسي تنزع بالسهم. وقال السدي: هي النفوس تنزع بالخروج من البدن. وقوله (غرقا) معناه إغراقا أي ابعادا في النزع. وقوله (والناشطات نشطا) قيل: هي الخارجات من بلد إلى بلد بعيد الأقطار ينشط كما ينشط الوحش بالخروج من بلد إلى بلد. والهموم تنشط بصاحبها أي تخرج به من حال إلى حال، قال هيبان بن قحافة:

أمست همومي تنشط المناشطا * الشام طورا ثم طورا واسطا (1)

وقال ابن عباس: هي الملائكة أي تنشط بأمر الله إلى حيث كان. وقال قوم: هو ملك الموت ينشط روحه من خلقه، وقال قوم: هي النجوم تنشط من المشرق إلى المغرب. وقال عطاء: هي الوحش تنشط من بلد إلى بلد قال رؤية: تنشط منها كل معلاه الوهق. يعني بقر الوحش. قال الفراء: تنشط نفس المؤمن كما ينشط العقال من يد البعير. قال ابن خالويه، وأكثر ما سمعته أنشطته بالألف، قالوا: كأنه أنشط من عقال. فإذا شددت الحبل في يد البعير قلت: نشطته وإذا حللته قلت أنشطته. وقوله (والسابحات سبحا) معناه المارات بغوص معظمها في المائع وقد يكون ذلك في الماء وقد يكون فيما جرى مجراه، وذلك كسبح دود الخل، وقد يكون السبح في الهواء تشبيها بالماء. وقال مجاهد: السابحات الملائكة، لأنها تسبح في نزولها بأمر الله كما يقال: الفرس يسبح في جريه إذا أسرع. وقال قتادة: هي النجوم أي تسبح في فلكها. وقال عطاء: هي السفن. وقال قوم: هو ملك الموت يقبض روح المؤمن وحده سهلا سرحا كالسابح في الماء. وقوله (فالسابقات سبقا) يعني الكائنات قبل غيرها على معنى صفة من الصفات. وقال مجاهد: هي الملائكة، لأنها سبقت إلى طاعة الله. وقال قوم: لأنها تسبق الشياطين إلى الوحي. وقال عطاء: هي الخيل السابقة. وقيل: هي النجوم - ذكره قتادة - أي يسبق بعضها بعضا في السير. وقوله (فالمدبرات أمرا) قال ابن عباس وقتادة وعطاء بن السائب: هي الملائكة تدبر الأشياء. وقيل: تدبير الملائكة في ما وكلت به من الرياح والأمطار ونحو ذلك من الأمور. وجواب القسم محذوف، كأنه قال: ليبعثن للجزاء والحساب ثم بين أي وقت يكون الجزاء والثواب والعقاب، فقال (يوم ترجف الراجفة) فالرجف حركة الشئ من تحت غيره بترديد واضطراب، وهي الزلزلة العظيمة رجف يرجف رجفا ورجفا ورجوفا، وأرجفوا إذا أزعجوا الناس باضطراب الأمور، كما ينزعج الذي يرجف ما تحته، ومنه الرجفة وهي الزعزعة الشديدة من تحت ما كان من الحيوان. وقيل: ان الأرض مع الجبال تتزعزع. وقوله (تتبعها الرادفة) ومعناه تتبع الراجفة الرادفة أي تجئ بعدها، وهي الكائنة بعد الأول في موضع الردف من الراكب، ردفهم الامر ردفا فهو رادف، وارتدف الراكب إذا اتخذ رديفا، وقال الحسن وقتادة: هما النفختان: أما الأولى فتميت الاحياء، وأما الثانية فتحي الموتى بإذن الله. وقوله (قلوب يومئذ واجفة) أي كائنة على الانزعاج والاضطراب، وجفت تجف وجفا ووجيفا وأوجف في السير إذا أزعج الركاب فيه. وقال ابن عباس: معنى (واجفة) أي خائفة. وقوله (أبصارها خاشعة) أي خاضعة ذليلة من هول ذلك اليوم قال الشاعر:

لما اتى خبر الزبير تهدمت * سور المدينة والجبال الخشع (2)

وقوله (يقولون أإنا لمرددون في الحافرة) حكاية عما قاله الكافرون المنكرون للبعث والنشور، فإنهم ينكرون النشر ويتعجبون من ذلك، ويقولون على وجه الانكار أئنا لمردودون في الحافرة. وقيل: حافرة، بمعنى محفورة، مثل (ماه دافق) (3) بمعنى مدفوق. وقال ابن عباس والسدي: الحافرة الحياة الثانية. وقيل: الحافرة الأرض المحفورة. أي نرد في قبورنا بعد موتنا احياء ؟! قال الشاعر:

احافرة على صلع وشيب * معاذ الله من جهل وعار (4)

فالحافرة الكائنة على حفر أول الكرة يقال: رجع في حافرته إذا رجع من حيث جاء، وذلك كرجوع القهقرى، فردوا في الحافرة أي ردوا كما كانوا أول مرة، ويقال: رجع فلان على حافرته أي من حين جاء. وقولهم: النقد عند الحافرة معناه إذا قال بعتك رجعت عليه بالثمن. وقال قوم: معناه النقد عند حافر الدابة. وقوله (فإنما هي زجرة واحدة) أي النفخة الثانية (فإذا هم بالساهرة) أي على وجه الأرض، فالعرب تسمي وجه الأرض من الفلاة ساهرة أي ذات سهر لأنه يسهر فيها خوفا قال أمية بن أبي الصلت:

وفيها لحم ساهرة وبحر * وما فاهوا به لهم مقيم (5)

وقال آخر:

فإنما قصرك ترب الساهرة * ثم تعود بعدها في الحافرة

من بعد ما كانت عظاما ناخرة (6)

وقال الحسن وقتادة ومجاهد والضحاك: الساهرة وجه الأرض. وقال قوم (بالساهرة) أي من بطن الأرض إلى ظهرها. وقالوا أيضا منكرين للبعث (أئذا كنا عظاما نخرة) نرد ونبعث. والعظام جمع عظم، وهي مأخوذة من العظم وذلك لعظم صلابتها وعظمها في نفسها والنخرة البالية بما حدث فيها من التغيير واختلال البنية، جذع نخر إذا كان بهذه الصفة، وإذا لم تختل بنيته لم يكن نخرا وإن بلي بالوهن والضعف وقيل: ناخرة مجوفة ينخر الرياح فيها بالمرور في جوفها وقيل: ناخرة ونخرة سواء، مثل ناخل ونخل، ونخرة أوضح في المعني، وناخرة أشكل برؤس الاى. وقيل: نخرة بالية مجوفة بالبلى. ثم حكى أيضا ما قالوه، فإنهم (قالوا تلك إذا كرة خاسرة) فالكرة المرة من المر وهي الواحدة من الكر، كر يكر كرة، وهي كالضربة الواحدة من الضرب، والخاسر الذاهب رأس ماله فتلك الكرة كأنه قد ذهب رأس المال منها، فكذلك الخسران. وإنما قالوا (كرة خاسرة) أي لا يجئ منها شئ كالخسران الذي لا يجئ منه فائدة. وكأنهم قالوا: هو كالخسران بذهاب رأس المال، فلا يجئ به تجارة، فكذلك لا يجئ بتلك الكرة حياة. وقيل معنا (تلك إذا كرة خاسرة) على ما تعدنا من العذاب. وقال الحسن: معناه كاذبة ليست كائنة.


1- القرطبي 19 / 190 ومجاز القرآن 2 / 284.

2- مر في 1 / 312، 204 و 7 / 152، 209 و 8 / 369.

3- سورة 86 الطارق آية 8.

4- تفسير القرطبي 19 / 195 والطبري 30 / 19.

5- القرطبي 19 / 197.

6- اللسان (نخر).