الآيات 31-40 من سورة النبأ
قوله تعالى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا، حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا، وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا، وَكَأْسًا دِهَاقًا، لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا، جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا، رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا، ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ مَآبًا، إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾
القراءة:
إحدى عشرة آية في البصري وعشر آيات عند الباقين قرأ (ولا كذابا) خفيفا الكسائي (رب السماوات) بالرفع محارب وأبو بكر، و (الرحمن) جرا عن عاصم وابن عامر ويعقوب وسهل. لما ذكر الله تعالى حال الكفار وما أعده لهم من أنواع العقاب ذكر ما للمؤمنين المتقين لمعاصي الله تعالى، فقال (إن للمتقين) الذين يتقون عقاب الله باجتناب معاصيه وفعل طاعته (مفازا) وهو موضع الفوز بخلوص الملاذ. وأصل الفوز النجاة إلى حال السلامة والسرور، ومنه قيل للمهلكة مفازة على وجه التفاؤل، لأنه قيل منجاة وقيل مفازا منجى إلى مبرة. ثم بين ذلك فقال (حدائق وأعنابا) فالحدائق جمع حديقة، وهي البستان المحوط، ومنه أحدق به حائطه. والحديقة الجنة المحوطة، ومنه أحدق القوم بفلان إذا أطافوا به، وسميت الحدقة حدقة لما يحيط بها من جفنها والأعناب جمع عنب، وهو ثمر الكرم قبل أن يجف فإذا جف فهو الزبيب، ونظيره الرطب ثمر النخل قبل أن يصير تمرا فإذا صار تمرا زال عنه اسم الرطب. وقوله (وكواعب أترابا) قال ابن عباس: الكواعب النواهد، والكاعب الجارية قد نهد ثدياها، يقال: كعب ثدي الجارية ونهد إذا ابتدأ بخروج حسن. والأتراب جمع ترب، وهي التي تنشأ مع لدتها على سن الصبي الذي يلعب بالتراب فكأنه قيل هم على سن واحدة قال قتادة: أترابا يعني في سن واحدة. وقوله (وكأسا دهاقا) فالكأس الاناء إذا كان فيه شراب. وقيل الكاس إناء الخمر الذي يشرب منه، قال الشاعر: يلذه بكأسه الدهاق (1) فإن لم يكن فيه الخمر لم يسم كأسا، والدهاق ملاى بشدة الضغط، والدهق شدة الضغط في الكأس ملاى مترعة ليس فيها فرجة ليستوفي حال اللذة. وقال قتادة: دهاقا مترعة. وقال مجاهد: معناه متتابعة على شاربها مأخوذ من متابعة الشد في الدهن. وقوله (لا يسمعون فيها لغوا) أي لا يسمعون في الجنة كلاما لا فائدة فيه (ولا كذابا) أي ولا تكذيب بعضهم لبعض. ومن قرأ (كذابا) بالتخفيف أراد مصدر كاذبه مكاذبة، وكذابا قال الشاعر:
فصدقتني وكذبتني * والمرء ينفعه كذابه (2)
وقال الفراء: قال اعرابي في طريق مكة: يا رب القصار أحب إليك أم الحلق يريد أقصر شعري أم احلق. وقوله (جزاء من ربك عطاء حسابا) أي فعلنا بالمؤمنين المتقين ما فعلنا جزاء على تصديقهم بالله ونبيه، فالجزاء إعطاء المستحق بعمل الطاعة أو المعصية. وقوله (عطاء حسابا) أي بحساب العمل كل إنسان على قدر عمله من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين، ثم سائر أخيار المؤمنين، وعند الله المزيد. وقيل: معناه عطاء كافيا من قولهم: أعطاني ما أحسبني أي كفاني، وحسبك أي اكتف، وحسبي الله أي كفاني الله. وقال الحسن: معناه إنه أعطاهم ذلك محاسبة. وقوله (رب السماوات والأرض) من رفع استأنف الكلام وجعله مبتدأ. وقوله (الرحمن) خبره، ومن جره رده على قوله (من ربك) رب السماوات، وجعل (الرحمن) جرا بأنه نعته. ومن رفع الرحمن وجر الأول قطعه عن الأول وتقديره: هو الرحمن. والمعنى إن الذي يفعل بالمؤمنين ما تقدم ذكره هو الله رب السماوات والأرض ومديرهما، ومدبر ما بينهما، والمصرف لهما على ما يريده (لا يملكون منه خطابا) ومعناه لا يملكون أن يسألوا إلا فيما أذن لهم فيه، كما قال (لا يشفعون إلا لمن ارتضى) (3) وفي ذلك أتم التحذير من الاتكال. والخطاب توجيه الكلام إلى مدرك بصيغة مبينة كاشفة عن المراد بخلاف صيغة الغائب عن الادراك على طريقة أنت وبك. والاضمار على ثلاثة أضرب: إضمار المتكلم، وإضمار المخاطب وإضمار الغائب. وقوله (يوم يقوم الروح والملائكة) معناه إذكر يوم يقوم الروح، قال الضحاك والشعبي: الروح هو جبرائيل عليه السلام وقال ابن مسعود وابن عباس: هو ملك من أعظم الملائكة خلقا، وهو المروي في أخبارنا. وقال الحسن وقتادة: الروح بنو آدم وقال ابن عباس: أرواح بني آدم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل رد الأرواح إلى الأجساد. وقوله (والملائكة صفا لا يتكلمون) أي مصطفين لا يتكلم أحد بشئ (إلا من أذن له الرحمن) أي أذن الله له في الكلام (وقال صوابا) والصواب موافقة الغرض الحكمي كأنه إصابة ذلك الغرض الذي تدعو إليه الحكمة. ونقيضه الخطأ، وهو مخالفة الغرض الحكمي ولما كانت الحكمة قد تدعو إلى أمر بأوكد مما تدعو إلى أمر، كدعائها إلى الفعل الأصلح، والفعل الأدون، صح ان صوابا أصوب من صواب. ثم قال (ذلك اليوم) يعني اليوم الذي وصفه وأخبر عنه هو (الحق) الذي لا شك في كونه وحصوله. وقوله (فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا) فيه دلالة على أن العباد قادرون على اتخاذ المآب وتركه. وإنما قال (فمن شاء اتخذ) لأنه قادر عليه ومزاح العلة فيه. والمآب المرجع، وهو (مفعل) من آب يؤب أوبا. وقال سفيان: معناه مرجعا. قال عبيد:
وكل ذي غيبة يؤوب * وغائب الموت لا يؤوب (4)
وقوله (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) معناه الاخبار من الله تعالى أنه خوف عباده وأعلمهم المواضع التي ينبغي أن يحذروها. ثم بين ما يكون بعد ذلك فقال (يوم ينظر المرؤ ما قدمت يداه) ومعناه ينتظر جزاء ما قدمه، فان قدم طاعة انتظر الثواب، وإن قدم معصية انتظر العقاب (ويقول الكافر) في ذلك اليوم (يا ليتني كنت ترابا) أي يتمنى أن لو كان ترابا لا يعاد ولا يحاسب ليتخلص من عقاب ذلك اليوم، لأنه ليس معه شئ يرجوه من الثواب. وقيل: ان الله يحشر البهائم وينتصف للجماء من القرناء فإذا انصف بينها جعلها ترابا فيتمنى الكافر عند ذلك لو كان مثل أولئك ترابا. وقيل: هو مثل قوله (يا ليتني لم أوت كتابيه) (5)
1- القرطبي 19 / 181.
2- مر في 8 / 390 و 9 / 425.
3- سورة 21 الأنبياء آية 28.
4- مر في 6 / 468.
5- سورة 69 الحاقة آية 25.