الآيات 29-40 من سورة المرسلات
قوله تعالى: ﴿انطَلِقُوا إلى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ، انطَلِقُوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ، لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ، إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ، هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ، هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ، فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾
القراءة:
قرأ رويس (انطلقوا إلى ظل) على فتح اللام بلفظ الماضي. وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر (جمالة) وضم الجيم يعقوب. الباقون (جمالات) من قرأ (جمالة) على لفظ الواحد قال معناه الجمع لقوله (صفر) ومن قرأ (جمالات). بكسر الجيم قال: جمالة وجمالات جميعا جمعان، كأنه جمع الجمع مثل: رجال ورجالات، وبيوت وبيوتات، والهاء في قوله (كأنه) كناية عن الشرر. وهذا حكاية ما يقول الله تعالى للكفار المكذبين بيوم الدين يوم القيامة فإنه يقول لهم (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون) من العقاب على الكفر ودخول النار جزاء على المعاصي، فكنتم تجحدون ذلك وتكذبون به ولا تعترفون بصحته، فامضوا اليوم إليه. فالانطلاق الانتقال من مكان إلى مكان من غير مكث الاعتقال، وهو من الاطلاق خلاف التقييد، والانتقال من حال إلى حال، ومن اعتقاد إلى اعتقاد لا يسمى انطلاقا. ثم ذكر الموضع الذي أمرهم بالانطلاق إليه، فقال (انطلقوا إلى) ظل ذي ثلاث شعب) قيل: معناه يتشعب من النار ثلاث شعب: شعبة فوقه، وشعبة عن يمينه وشعبة عن شماله فيحيط بالكافر. وقال مجاهد وقتادة (ظل) دخان من جهنم ينقسم ثلاث شعب كما قال تعالى (أحاط بهم سرادقها) (1) أي من الدخان الاخذ بالأنفاس (لا ظليل) معناه غير مانع من الأذى يستر عنه، فالظليل المانع من الأذى بستره عنه، ومثله الكنين، فالظليل من الظلة، وهي السترة، والكنين من الكن، فظل هذا الدخان لا يغني الكفار من حر النار شيئا. وبين ذلك بقوله (ولا يغني من اللهب) والاغناء إيجاد الكفاية بما يكون وجود غيره وعدمه سواء يقال: أغنى عنه أي كفى في الدفع عنه. واللهب ارتفاع الشرر، وهو اضطرام النار، التهب يلتهب التهابا وألهبتها إلهابا ولهبا. وقوله (انها) يعني النار (ترمي بشرر) وهي قطع تطاير من النار في الجهات وأصله الظهور من شررت الثوب إذا أظهرته للشمس والشرر يظهر متبددا من النار. وقوله (كالقصر) أي ذلك الشرر كالقصر أي مثله في عظمه، وهو يتطاير على الكافرين من كل جهة - نعوذ بالله منه - والقصر واحد القصور من البنيان - في قول ابن عباس ومجاهد - وفي رواية أخرى عن ابن عباس وقتادة والضحاك: القصر أصول الشجر واحدته قصرة مثل جمرة وجمر، والعرب تشبه الإبل بالقصور، قال الأخطل:
كأنه برج رومي يشيده * لز بجص وآجر وأحجار (2)
والقصر في معنى الجمع إلا أنه على طريق الجنس. ثم شبه القصر بالجمال، فقال (كأنه جمالات صفر) قال الحسن وقتادة: كأنها انيق سود، لما يعتري سوادها من الصفرة. وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: قلوس السفن، وفي رواية أخرى عن ابن عباس: هي قطع النحاس. قال الزجاج (جمالات) بالضم جمع جمالة وهو القلس من قلوس البحر، ويجوز أن يكون جمع (جمل) وجمالات، كما قيل (رحال) جمع (رحل) ومن كسر فعلى انه جمع جمالة، وجمالة جمع جمل مثل حجر وحجارة، وذكر وذكارة. وقرئ في الشواذ (كالقصر) بفتح الصاد جمع كأنها أعناق الإبل (وجمالات) جمع جمل كرجل ورجالات، وبيت وبيوتات، ويجوز أن يكون جمع جمالة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (جملة) بغير الألف على التوحيد لأنه لفظ جنس يقع على القليل والكثير. الباقون جمالات بألف، مكسور الجيم. وقوله (ويل يومئذ للمكذبين) قد فسرناه ثم قال تعالى (هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون) اخبار من الله تعالى أن ذلك اليوم لا ينطق الكفار. وقيل في معناه قولان:
أحدهما: ان ذلك اليوم مواطن، فموطن لا ينطقون، لأنهم مبلسون من هول ما يرونه، وموطن يطلق فيه عن ألسنتهم فينطقون، فلذلك حكى عنهم أنهم (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل) (3) وقد يقال هذا يوم لا ينطقون إذا لم ينطقوا في بعضه كما يقال: كان كذا يوم قدم فلان وإن كان قدم في بعضه، لان المعنى مفهوم.
الثاني: انهم ينطقون بنطق لا ينتفعون به، وكأنهم لم ينطقوا، وأضاف الزمان إلى الافعال كقولك أتيتك يوم قدم زيد، وآتيك يوم يخرج عمرو، وأجاز النحويون هذا يوم لا ينطقون بالنصب على أنه يشير إلى الجزاء، ولا يشير إلى اليوم وقوله (ولا يؤذن لهم) فالاذن الاطلاق في الفعل، تقول: يسمع بالاذن فهذا أصله وقد كثر استعماله حتى صار كل دليل ظهر به أن للقادر أن يفعل كذا فهو أذن له، وكل ما أطلق الله فيه بأي دليل كان، فقد أذن فيه. وقوله تعالى (فيعتذرون) فالاعتذار الانتفاء من خلاف المراد بالمانع من المراد، وليس لاحد عذر في معصية الله، لأنه تعالى لا يكلف نفسا ما لا يطاق. وقد يكون له عذر في معصية غيره، لأنه قد يكلف خلاف الصواب وقد يكلف ما لا يمكن لعارض من الأسباب. وقوله (فيعتذرون) رفع عطفا على قوله (لا يؤذن) قال الفراء: تقديره لا ينطقون ولا يعتذرون، وقد يجوز في مثله النصب علي جواب النفي، ومعنى الآية لا يؤذن لهم في الاعتذار فكيف يعتذرون. وقوله (هذا يوم الفصل) يعني يفصل بين الخلائق بالحكم لكل أحد بما له وعليه. والفصل قطع علق الأمور بتوفية الحقوق، وهذا الفصل الذي هو فصل القضاء يكون ذلك في الآخرة على ظاهر الامر وباطنه، وأما في الدنيا، فهو على ظاهر الامر، لان الحاكم لا يعرف البواطن. وقوله (جمعناكم والأولين) معناه إن الله يجمع فيه الخلائق في يوم واحد في صعيد واحد، والجمع جعل الشئ مع غيره إما في مكان واحد أو محل واحد أو في يوم واحد أو وقت واحد، أو يجعل مع غيره في حكم واحد أو معنى واحد كجمع الجماد والحيوان في معنى الحدوث. وقوله (فإن كان لكم كيد فكيدون) معناه توبيخ من الله تعالى وتقريع للكفار واظهار عجزهم عن الدفع عن أنفسهم فضلا عن أن يكيدوا غيرهم، وإنما هو على أنكم كنتم في دار الدنيا تعملون ما يغضبني، فالان عجزتم عن ذلك وحصلتم على وبال ما عملتم. وقيل: المعنى إن كان لكم حيلة تحتالونها في التخلص فاحتالوا. والكيد الحيلة و (ويل يومئذ للمكذبين) قد مضى تفسيره.
1- سورة 18 الكهف آية 29.
2- مر في 7 / 53.
3- سورة 40 المؤمن آية 11.