الآيات 16-28 من سورة المرسلات
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ، كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ، أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ، فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ، إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ، فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا، أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا، وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتًا، وَيْلٌ يوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ﴾
القراءة:
قرأ أهل المدينة والكسائي (فقدرنا) مشددة. الباقون بالتخفيف وهما لغتان. ومن اختار التخفيف فلقوله (فنعم القادرون). يقول الله تعالى على وجه التهديد للكفار (ألم نهلك الأولين) يعني قوم نوح وعاد وثمود، والآخرون قوم لوط وإبراهيم إلى فرعون ومن معه من الجنود أهلكهم الله تعالى بأنواع الهلاك جزاء على كفرهم لنعم الله وجحدهم لتوحيده واخلاص عبادته وقوله (ثم نتبعهم الآخرين) إنما رفعه عطفا على موضع (ألم) كأنه قال: لكنا نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين. وقال المبرد تقديره ثم نحن نتبعهم لا يجوز غيره. لان قوله (ألم نهلك) ماض، وقوله (ثم نتبعهم) مستقبل فلا يكون عطفا على الأول ولا على موضعه. والاهلاك إبطال الشئ بتصييره إلى حيث لا يدرى أين هو إما باعدامه أو باخفاء مكانه. وقد يكون الاهلاك بالإماتة، وقد يكون بالنقل إلى حال الجمادية. والأول هو الكائن قبل غيره. والثاني هو الكائن بعد غيره. والأول قبل كل شئ هو الله تعالى الذي لم يزل. (والأولين) في الآية هم الذين تقدموا على أهل العصر الثاني، والاخر الكائن بعد الأول من غير بقية منه، وبهذا ينفصل عن الثاني، لان الثاني قد يكون بعد بقية من الشئ ثالثا ورابعا وخامسا إلى حيث انتهى، فإذا صار إلى الاخر فليس بعده شئ كالكتاب الذي هو أجزاء كثيرة وقوله (كذلك نفعل بالمجرمين) أي مثل ما فعلنا بأولئك نفعل مثله بالعصاة ثم قال (ويل يومئذ) يعني يوم الجزاء والثواب والعقاب (للمكذبين) فإنهم يجازون بأليم العقاب. والاتباع الحاق الثاني بالأول بدعائه إليه، والتبع الحاق الثاني بالأول باقتضائه له، تبع تبعا فهو تابع وأتبع اتباعا. وقوله (ألم نخلقكم من ماء مهين) والمهين القليل الغناء، ومثله الحقير الذليل وفى خلق الانسان على هذا الكمال من الحواس الصحيحة والعقل والتميز من ماء مهين أعظم الاعتبار وأبين الحجة على أن له مدبرا وصانعا وخالقا خلقه وصنعه فمن جحده كان كالمكابر لما هو من دلائل العقول. ثم قال الله تعالى مبينا انه جعل ذلك الماء المهين الحقير (في قرار مكين) فالقرار المكان الذي يمكن أن يطول فيه مكث الشئ، ومنه قولهم: قر في المكان إذا ثبت على طول المكث فيه يقر قرارا، ولا قرار لفلان في هذا المكان أي لا ثبات له. وقوله (إلى قدر معلوم) فالقدر المقدار المعلوم الذي لا زيادة فيه ولا نقصان وكأنه قال إلى مقدار من الوقت المعلوم، والقدر مصدر من قولهم: قدر يقدر قدرا وقدر يقدر - بالتخفيف، والتشديد - إلا أن التشديد للتكثير. وقوله (فقدرنا فنعم القادرون) معناه في قول من خفف فقدرنا من القدرة، فنعم القادرون على تدبيره. ومن شدد أراد فقدرنا، فنعم المقدرون لأحوال النطفة ونقلها من حال إلى حال حتى صارت إلى حال الانسان. والعرب تقول: قدر عليه الموت وقدر: بالتخفيف والتشديد. ومن شدد وقرأ القادرون جمع بين اللغتين كما قال الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت * من الحوادث إلا الشيب والصلعا (1)
وقوله (ألم نجعل الأرض كفاتا) نصب (كفاتا) على الحال، وتقديره ألم نجعل الأرض لكم ولهم كفاتا، والكفات الضمام فقد جعل الله الأرض للعباد تكفتهم (احياء وأمواتا) أي تضمهم في الحالين كفت الشئ يكفته كفتا وكفاتا إذا ضمه وقيل (كفاتا) وعاء وهذا كفته أي وعاؤه، ويقال كفيته أيضا، وقال الشعبي ومجاهد: فظهرها للاحياء وبطنها للأموات، وهو قول قتادة ونصب أحياء وأمواتا على الحال، ويجوز على المفعول به، قال أبو عبيدة وغيره (كفاتا) أي أوعية يقال: هذا النحى كفت هذا وكفيته. وقوله (احياء وأمواتا) أي منه ما ينبت، ومنه ما لا ينبت. وقوله (وجعلنا فيها رواسي شامخات) أي وجعلنا في الأرض جبالا ثابتة عالية، فالشامخات العاليات، شمخ يشمخ شمخا، فهو شامخ، ومنه شمخ بأنف إذا رفعه كبرا، وجبل شامخ وشاهق وبازخ كله بمعنى واحد والرواسي الثوابت. وقوله (وأسقيناكم ماء فراتا) أي وجعلنا لكم شرابا من الماء الفرات، وهو العذاب وهو صفة يقال: ماء فرات وماء زلال وماء غدق وماء نمير كله من العذوبة والطيب، وبه سمي النهر العظيم المعروف بالفرات قال الشاعر:
إذا غاب عنا غاب عنا فراتنا * وإن شهد أجدى فضله وجداوله (2)
وقال ابن عباس أصول الأنهار العذبة أربعة: جيحان ومنه دجلة، وسيحان نهر بلخ، وفرات الكوفة، ونيل مصر. وقوله (ويل يومئذ للمكذبين) قد فسرناه.
1- مر في 6 / 28.
2- مر في 4 / 194.