الآيات 11-25 من سورة القيامة

قوله تعالى: ﴿كَلَّا لَا وَزَرَ، إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ، يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ، بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ، لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ، كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ، إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾

القراءة:

قرأ (كلا بل يحبون العاجلة ويذرون الآخرة) بالياء فيهما ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر على وجه الاخبار عنهم. الباقون بالتاء على وجه الخطاب لهم، لما حكى الله تعالى عن الكافر انه يقول يوم القيامة (أين المفر) والمهرب حكى ما يقال له، فإنه يقال له (كلا لا وزر) أي لا ملجأ. والوزر الملجأ من جبل يتحصن به أو غيره من الحصون المنيعة. ومنه الوزير المعين الذي يلجأ إليه في الأمور، يقال وزرت الحائط إذا قويته بأساس يعتمد عليه. وقال ابن عباس ومجاهد: لا وزر، معناه لا ملجا. وقال الحسن: لا جبل، لان العرب إذا دهمتهم الخيل بغتة، قالوا: الوزر، يعنون الجبل، قال ابن الدمينة:

لعمرك ما للفتى من وزر * من الموت ينجو به والكبر (1)

وقال الضحاك: معناه لا حصن. وقيل معناه لا منجا ينجو إليه، وهو مثل الملجأ. ثم قال تعالى (إلى ربك يومئذ المستقر) أي المرجع الذي يفر فيه. ومثله المأوى والمثوى، وخلافه المرتحل. والمستقر على وجهين: مستقر إلى أمد، ومستقر على الأبد. وقوله (ينبأ الانسان يومئذ بما قدم واخر) أي يخبر بجميع ما عمله، وما تركه من الطاعات والمعاصي، فالنبأ الخبر بما يعظم شأنه، وحسن في هذا الموضع لان ما جرى مجرى اللغو والمباح لا يعتد به في هذا الباب. وإنما الذي يعظم شأنه من عمل الطاعة والمعصية هو ما يستحق عليه الجزاء. فأما ما وجوده كعدمه، فلا اعتبار به. والتقديم ترتيب الشئ قبل غيره. وضده التأخير وهو ترتيب الشئ بعد غيره، ويكون التقديم والتأخير في الزمان، وفى المكان، وفى المرتبة، كتقديم المخبر عنه في المرتبة، وهو مؤخر في الذكر، كقولك: في الدار زيد، وكذلك الضمير في (غلامه ضرب زيد) وهو مقدم في اللفظ ومؤخر في المرتبة. وقال ابن عباس: ينبأ بما قدم من المعصية وأخر من الطاعة. وقال مجاهد: يعني بأول عمله وآخره. وقال ابن زيد: ما أخذ وترك. وفي رواية عن ابن عباس، وهو قول ابن مسعود: بما قدم قبل موته، وما اخر من سنة يعمل بها بعد موته، وقيل ما قدم وأخر جميع أعماله التي يستحق بها الجزاء. وقوله (بل الانسان على نفسه بصيرة) أي شاهد على نفسه بما تقوم به الحجة - ذكره ابن عباس - كما يقال: فلان حجة على نفسه. وقد قال تعالى (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) (2) وقال الزجاج: معناه بل الانسان تشهد عليه جوارحه كما قال (يوم تشهد عليهم) (3) والهاء في (بصيرة) مثل الهاء في (علامة) للمبالغة. وقيل شهادة نفسه عليه أولى من اعتذاره. وقيل تقديره بل الانسان على نفسه من نفسه بصيرة: جوارحه شاهدة عليه يوم القيامة ولو اعتذر كان شاهدا عليه من يكذب عذره. وقوله (ولو القى معاذيره) معناه ولو أقام الاعتذار عند الناس، وفى دار التكليف واستسر بالمعاصي بارخاء الستر. وقال ابن عباس: معناه ولو اعتذر. وقال السدي: معناه ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب. وقال الزجاج: معناه لو أتى بكل حجة عنده. والمعاذير التنصل من الذنوب بذكر العذر، واحدها معذرة من قوله (لا ينفع الظالمين معذرتهم) (4) وقيل: المعاذير ذكر مواقع تقطع عن الفعل المطلوب. والعذر منع يقطع عن الفعل بالامر الذي يشق. والاعتذار الاجتهاد في تثبيت العذر. وقوله (لا تحرك به لسانك لتعجل به) قال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك: كان النبي صلى الله عليه وآله إذا نزل عليه القرآن عجل بتحريك لسانه لحبه إياه، فنهاه الله عن ذلك. والتحريك تغيير الشئ من مكان إلى مكان أو من جهة إلى جهة بفعل الحركة فيه والحركة ما به يتحرك المتحرك. والمتحرك هو المنتقل من جهة إلى غيرها. واللسان آلة الكلام. والعجلة طلب عمل الشئ قبل وقته الذي ينبغي أن يعمل فيه. ونقيضه الابطاء، والسرعة عمل الشئ في أول وقته الذي هو له، وضده الأناة. وقوله (إن علينا جمعه وقرآنه) قال ابن عباس والضحاك: معناه ان علينا جمعه في صدرك، وقراءته عليك حتى يمكنك تلاوته. وقال قتادة: معناه إن علينا جمعه في صدرك وتأليفه على ما نزل عليك. وقال ابن عباس - في رواية أخرى - إن معناه إن علينا بيانه من حلاله وحرامه بذكره لك. وقال قتادة: معناه نذكر احكامه ونبين لك معناه إذا حفظته. وقال البلخي: الذي أختاره انه لم يرد القرآن وإنما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة، لان ما قبله وبعده يدل على ذلك، وليس فيه شئ يدل على أنه القرآن، ولا على شئ من أحكام الدنيا، وفي ذلك تقريع للعبد وتوبيخ له حين لا تنفعه العجلة. والقرآن من الضم والتأليف، قال عمرو بن كلثوم:

ذراعي عيطل أدماء بكر * هجان اللون لم تقرأ جنينا (5)

أي لم تضم رحما على ولد. وقوله (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) قال ابن عباس: معناه إذا قرأناه أي تلوناه فاتبع قراءته بقرائتك، وقال قتادة والضحاك: معناه بأن يعمل بما فيه من الاحكام والحلال والحرام. وقيل: معناه فإذا قرأه جبرائيل عليك فاتبع قراءته. والاتباع مراجعة الثاني للأول في ما يقتضيه، ومثله الاقتداء والاحتذاء والائتمام، ونقيضه الخلاف. والبيان إظهار المعنى للنفس بما يتمير به من غيره بان الشئ يبين إذا ظهر وأبانه غيره أي أظهره بيانا وإبانة، ونقيض البيان الاخفاء والاغماض. وقال قتادة (ثم إن علينا بيانه) معناه إنا نبين لك معناه إذا حفظته. وقوله (كلا بل تحبون العاجلة) معناه الاخبار من الله تعالى أن الكفار يريدون المنافع العاجلة ويركنون إليها ويريدونها (وتذرون الآخرة) أي وتتركون عمل الآخرة الذي يستحق به الثواب، وتفعلون ما يستحق به العقاب من المعاصي والمحارم. ثم قسم تعالى أهل الآخرة فقال (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) أي مشرقة مضيئة، فالنضرة الصورة الحسنة التي تملأ القلب سرورا عند الرؤية نضر وجهه ينضر نضرة ونضارة فهو ناضر. والنضرة مثل البهجة والطلاقة، وضده العبوس والبسور، فوجوه المؤمنين المستحقين للثواب بهذه الصفة بما جعل الله عليها من النور علامة للخلق، والملائكة على أنهم مؤمنون مستحقون الثواب. وقوله (إلى ربها ناظرة) معناه منتظرة نعمة ربها وثوابه ان يصل إليهم. وقيل (ناضرة) أي مشرفة (إلى) ثواب ربها (ناظرة) وليس في ذلك تنغيص لان الانتظار إنما يكون فيه تنغيص إذا كان لا يوثق بوصوله إلى المنتظر أو هو محتاج إليه في الحال. والمؤمنون بخلاف ذلك، لأنهم في الحال مستغنون منعمون، وهم أيضا واثقون انهم يصلون إلى الثواب المنتظر. والنظر هو تقليب الحدقة الصحية نحو المرئي طلبا للرؤية ويكون النظر بمعنى الانتظار، كما قال تعالى (واني مرسلة إليهم بهدية فناظرة) (6) أي منتظرة وقال الشاعر:

وجوه يوم بدر ناظرات * إلى الرحمن تأتي بالفلاح (7)

أي منتظرة للرحمة التي تنزل عليهم، وقد يقول القائل: إنما عيني ممدودة إلى الله، والى فلان، وانظر إليه أي انتظر خيره ونفعه وأؤمل ذلك من جهته، وقوله (ولا ينظر إليهم يوم القيامة) (8) معناه لا ينيلهم رحمته. ويكون النظر بمعنى المقابلة، ومنه المناظرة في الجدل، ومنه نظر الرحمة أي قابله بالرحمة، ويقال: دور بني فلان تتناظر أي تتقابل، وهو وينظر إلى فلان أي يؤمله وينتظر خيره، وليس النظر بمعنى الرؤية أصلا، بدلالة انهم يقولون: نظرت إلى الهلال فلم أره فلو كان بمعنى الرؤية لكان متناقضا، ولأنهم يجعلون الرؤية غاية للنظر يقولون: ما زلت أنظر إليه حتى رأيته، ولا يجعل الشئ غاية لنفسه لا يقال: بما زلت أراه حتى رأيته، ويعلم الناظر ناظرا ضرورة، ولا يعلم كونه رائيا بل يسأل بعد ذلك هل رأيت أم لا؟ودخل (إلى) في الآية لا يدل على أن المراد بالنظر الرؤية، ولا تعليقه بالوجوه يدل على ذلك، لأنا أنشدنا البيت، وفيه تعليق النظر بالوجه وتعديه بحرف (إلى) والمراد به الانتظار، وقال جميل بن معمر:

وإذا نظرت إليك من ملك * والبحر دونك جدتني نعماء (9)

والمراد به الانتظار والتأميل، وأيضا، فإنه في مقابلة قوله في صفة أهل النار (تظن أن يفعل بها فاقرة) فالمؤمنون يؤمنون بتجديد الكرامة وينتظرون الثواب، والكفار يظنون الفاقرة، وكله راجع إلى فعل القلب، ولو سلمنا أن النظر يعد الرؤية لجاز أن يكون المراد أنها رؤية ثواب ربها، لان الثواب الذي هو أنواع اللذات من المأكول والمشروب والمنكوح تصح رؤيته. ويجوز أيضا أن يكون إلى واحد إلا لاء وفى واحدها لغات (ألا) مثل قفا، و (إلى) مثل معي و (إلى) مثل حدى و (إلى) مثل حسي، فإذا أضيف إلى غيره سقط التنوين، ولا يكون (إلى) حرفا في الآية وكل ذلك يبطل قول من أجاز الرؤية على الله تعالى. وليس لاحد ان يقول: إن الوجه الأخير يخالف الاجماع، أعني اجماع المفسرين، وذلك لأنا لا نسلم لهم ذلك، بل قد قال مجاهد وأبو صالح والحسن وسعيد بن جبير والضحاك: إن المراد نظر الثواب. وروي مثله عن علي عليه السلام، وقد فرق أهل اللغة بين نظر الغضبان ونظر الراضي، يقولون: نظر غضبان، ونظر راض، ونظر عداوة ونظر مودة، قال الشاعر:

تخبرني العينان ما الصدر كاتم * ولا حن بالبعضاء والنظر الشزر

والرؤية ليست كذلك فإنهم لا يضيفونها، فدل على أن النظر غير الرؤية، والمرئي هو المدرك، والرؤية هي الادراك بالبصر، والرائي هو المدرك، ولا تصح الرؤية وهي الادراك إلا على الأجسام أو الجوهر أو الألوان. ومن شرط المرئي أن يكون هو أو محله مقابلا أو في حكم المقابل، وذلك يستحيل عليه تعالى، فكيف تجيز الرؤية عليه تعالى ؟!!! ثم ذكر القسم الاخر فقال (وجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة) يعني وجوه أهل الكفر. والبسور ظهور حال الغم في الوجه معجلا قبل الاخبار عنه ومثله العبوس إلا أنه ليس فيه معنى التعجيل. والفاقرة الكاسرة لفقار الظهر بشدة ومثل الفاقرة الداهية والابدة. وقال الحسن: ناظرة بهجة حسنة. وقال مجاهد: مسرورة. وقال ابن زيد: ناعمة. وقال مجاهد وقتادة: معنى باسرة كاشرة كالحة. وقال مجاهد: الفاقرة الداهية. وقال ابن زيد الابدة بدخول النار.


1- مجاز القرآن 2 / 277 والقرطبي 19 / 96.

2- سورة 17 الاسرى آية 14.

3- سورة 24 النور آية 24.

4- سورة 40 المؤمن آية 52.

5- مر تخريجه في 2 / 238.

6- سورة 27 النمل آية 35.

7- مر في 1 / 229.

8- سورة 3 آل عمران آية 77.

9- مر في 1 / 229.