الآيات 36-56 من سورة المدّثِّر

قوله تعالى: ﴿نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ، لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ، فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ، عَنِ الْمُجْرِمِينَ، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ، فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ، فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ، فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ، بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً، كَلَّا بَل لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ، كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، فَمَن شَاء ذَكَرَهُ، وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ﴾

القراءة:

قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر (مستنفرة) بفتح الفاء. الباقون بكسرها ومعناهما متقارب، لان من فتح الفاء أراد أنه نفرها غيرها، ومن كسر الفاء أراد أنها نافرة، وانشد الفراء:

امسك حمارك إنه مستنفر * في أثر أحمرة عمدن لغرب (1)

والنفور الذهاب عن المخوف بانزعاج، نفر عن الشئ ينفر نفورا فهو نافر، والتنافر خلاف التلاؤم، واستنفر طلب النفور (ومستنفرة) طالبة للنفور. وقرأ نافع ويعقوب (وما تذكرون) بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر. لما اخبر الله تعالى ان الآية التي ذكرها لإحدى الكبر، بين أنه بعث النبي (نذيرا للبشر) أي منذرا مخوفا معلما مواضع المخافة، والنذير الحكيم بالتحذير عما ينبغي ان يحذر منه، فكل نبي نذير، لأنه حكيم بتحذيره عقاب الله تعالى على معاصيه. (ونذيرا) نصب على الحال. وقال الحسن: إنه وصف النار وقال ابن زيد: هو وصف النبي. وقال أبو رزين: هو من صفة الله تعالى، فمن قال: هو للنبي قال كأنه قيل: قم نذيرا. وقوله (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر) معناه إن هذا الانذار متوجه إلى من يمكنه ان يتقي عذاب النار بأن يجتنب معاصيه ويفعل طاعاته، فيقدر على التقدم والتأخير في أمره بخلاف ما يقوله المجبرة الذين يقولون بتكليف ما لا يطاق لمنع القدرة. وقال قتادة: معناه لمن شاء منكم أن يتقدم في طاعة الله أو يتأخر عنها بمعصيته. والمشيئة هي الإرادة. وقوله (كل نفس بما كسبت رهينة) معناه إن كل نفس مكلفة مطالبة بما عملته وكسبته من طاعة أو معصية، فالرهن أخذ الشئ بأمر على أن لا يرد إلا بالخروج منه رهنه يرهنه رهنا قال زهير:

وفارقتك برهن لا فكاك له * يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا (2)

وكذلك هؤلاء الضلال قد أخذوا برهن لا فكاك له. قال الرماني: في ذلك دلالة على القائلين باستحقاق الذم، لأنه عم الارتهان بالكسب في هذا الموضع، وهم يزعمون أنه يرتهن بأن لم يفعل ما وجب عليه من غير كسب شئ منه، فكانت الآية حجة على فساد مذهبهم. وهذا الذي ذكره ليس بصحيح، لان الذي في الظاهر أن الانسان رهن بما كسبت يداه. ولم يقل: ولا يرهن إلا بما كسب له إلا من جهة دليل الخطاب الذي هو فاسد عند أكثر الأصوليين، على أن الكسب هو ما يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر، ويدخل في ذلك الفعل، وألا يفعل، فلا تعلق في الآية. ولما ذكر تعالى أن (كل نفس بما كسبت رهينة) استثنى من جملة النفوس فقال (إلا أصحاب اليمين) والاستثناء منقطع، لان أصحاب اليمين ليسوا من الضلال الذين هم رهن بما كسبوه، وتقديره لكن أصحاب اليمين (في جنات) أي بساتين آجنها الشجر، وأصحاب اليمين هم كل من لم يكن من الضالين: وقال الحسن: هم أصحاب الجنة. وقال قوم: هم الذين ليس لهم شئ من الذنوب. وقال قوم: هم أطفال المؤمنين. وقوله (يتساءلون) أي يسأل بعضهم بعضا (عن المجرمين) العصاة في طاعة الله، فيقولون لهم (ما سلككم في سقر) أي ما أدخلكم في جهنم فالمجرم هو القاطع بالخروج عن أمر الله ونهيه إلى ارتكاب الكبائر من القبيح، والجاروم القاطع. والسلوك الدخول. وسقر اسم من السماء جهنم. ثم حكى ما يجيبهم به أصحاب النار فإنهم يقولون لهم: أدخلنا في النار لأنا (لم نك من المصلين) أي لم نك نصلى ما أوجب علينا من الصلاة المفروضة على ما قررها الشرع، وفي ذات دلالة على أن الخلال بالواجب يستحق به الذم والعقاب، لأنهم لم يقولوا انا فعلنا تركا للصلاة بل علقوا استحقاقهم للعقاب بالاخلال بالصلاة وفيها دلالة على أن الكفار مخاطبون بالعبادة. لان ذلك حكاية عن الكفار بدلالة قوله في آخر الآية (كنا نكذب بيوم الدين). وقوله (ولم نك نطعم المسكين) أي لم نكن نخرج الزكوات التي وجبت علينا، والكفارات التي يلزمنا دفعها إلى المساكين. وهم الفقراء. وهم الفقراء، فالمسكين الذي سكنته الحاجة إلى ما في أيدي الناس عن حال النشط. وحال الفقير أشد من حال المسكين. قال الله تعالى (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر) (3) فسماهم الله مساكين مع أن لهم مركبا في البحر قال الشاعر:

أنا الفقير الذي كانت حلوبته * وفق العيال فلم يترك له سبد (4)

(وكنا نخوض مع الخائضين) قال قتادة: معناه كلما غوي غاويا لدخول في الباطل غوينا معه أي كنا نلوث أنفسنا بالمرور في الباطل كتلويث الرجل بالخوض فلما كان هؤلاء يخرجون مع من يكذب بالحق مشيعين لهم في القول كانوا خائضين معهم (وكنا) مع ذلك (نكذب بيوم الدين) اي كنا نجحد يوم الجزاء وهو يو القيامة، فالتكذيب تنزيل الخبر على أنه كذب باعتقاد ذلك فيه أو الحكم به. فهؤلاء اعتقدوا ان الخبر يكون يوم الدين كذب. والدين الجزاء، وهو الايصال إلى كل من له شئ أو عليه شئ ما يستحقه، فلذلك يوم الدين، وهو يوم الجزاء وهو يوم أخذ المستحق بالعدل. وقوله (حتى أتانا اليقين) معناه حتى جاءنا العلم واليقين الذي يوجد برد الثقة به في الصدر أو دليله، يقال: وجد فلان برد اليقين وثلج في صدره، ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه متيقن، فقال الله تعالى لهم (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) الذين يشفعون لهم، لان عذاب الكفر لا يسقطه الله بالشفاعة بالاجماع. ثم قال (فما لهم عن التذكرة) أي أي شئ لهم؟ولم أعرضوا وتولوا عن النبوة والرشد ؟! ولم يتعظوا به إلى أن صاروا إلى جهة الضلال على وجه الانكار عليهم. ثم شبههم، فقال (كأنهم حمر مستنفرة) أي مثلهم في النفور عما تدعوهم إليه من الحق واعراضهم، مثل الحمر إذا نفرت ومرت على وجهها إذا (فرت من قسورة) وهو السبع يعني الأسد، يقال نفر، واستنفر، مثل علامتنه واستعلاه وسمع إعرابي رجلا يقرأ (كأنهم حمر مستنفرة) فقال: طلبها قسورة، فقيل له: ويحك إن في القرآن (فرت من قسورة) قال (مستنفرة) إذا، فالفرار الذهاب عن الشئ خوفا منه، فريفر فرا وفرارا، فهو فار إذا هرب والفار الهارب. والهرب نقيض الطلب، واصل الفرار الانكشاف عن الشئ، ومنه فر الفرس يفره فرا إذا كشف عن سنه. والقسورة الأسد. وقيل: هو الرامي للصيد. وأصله الاخذ بالشدة من قسره يقسره قسرا أي قهره. وقال ابن عباس: القسورة الرماة وقال سعيد بن جبير: هم القناص. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: جماعة الرجال وقال أبو هريرة: هو الأسد. وهو قول زيد بن اسلم، وفى رواية عن ابن عباس وأبي زيد: القسور بغير هاء تأنيث. وقوله (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة) اخبار من الله تعالى بأنهم ليسوا كالحمر المستنفرة الفارة من القسورة، بل لان كل رجل منهم يريد أن يعطى صحفا منشرة. قال قال الحسن وقتادة ومجاهد: انهم يريدون صحفا منشرة اي كتبا تنزل من السماء كتابا إلى فلان وكتابا إلى فلان: أن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله. وقيل: إنهم قالوا كانت بنو إسرائيل إذا أذنب منهم مذنب أنزل الله كتابا أن فلانا أذنب فما بالنا لا ينزل علينا مثل ذلك إن كنت صادقا به؟والصحف جمع صحيفة، وهي الورقة التي من شأنها ان تقلب من جهة إلى جهة، لما فيها من الكتابة، وتجمع الصحيفة صحفا وصحائف، ومنه مصحف ومصاحف. والنشر بسط ما كان مطويا أو ملتفا من غير التحام. وقيل: معناه إنهم يريدون صحفا من الله تعالى بالبراءة من العقوبة واسباغ النعمة حتى يؤمنوا وإلا أقاموا على أمرهم. وقيل: تفسيره ما ذكره الله تعالى في قوله (ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) (5) فقال الله تعالى (كلا) أي حقا ليس الامر على ما قالوه (بل لا يخافون) هؤلاء الكفار (الآخرة) بجحدهم صحته. ثم قال (انه تذكرة) يعني القرآن تبصرة وموعظة لمن عمل به واتعظ بما فيه، وهو قول قتادة. ثم قال (فمن شاء ذكره) أي من شاء أن يتعظ بما فيه وهو يتذكر به، فعل، لأنه قادر عليه. ثم قال (وما يذكرون إلا أن يشاء الله) من قرأ بالتاء، فعلى الخطاب، ومن قرأ بالياء، فعلى الاخبار عنهم. ومعناه ليس يتذكرون ولا يتعظون بالقرآن إلا أن يشاء الله، ومعناه إلا والله شاءه له، لأنه طاعة والله يريد الطاعات من خلقه. وقوله (هو أهل التقوى وأهل المغفرة) معناه هو أهل ان يتقى عقابه، وأهل ان يعمل بما يؤدي إلى مغفرته. وقيل: معناه هو أهل ان يغفر المعاصي إذا تاب المذنب من معاصيه.


1- اللسان (نفر).

2- ديوانه 39 (دار بيروت).

3- سورة 18 الكهف آية 80.

4- مر تخريجه في 5 / 283.

5- سورة 17 الاسرى آية 93.