الآيات 11-19 من سورة المزّمِّل

قوله تعالى: ﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا، إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا، وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا، يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا، إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا، فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا، السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا، إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾

لما امر الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله بالصبر على اذى قومه، وأن يهجرهم هجرا جميلا قال على وجه التهديد للكفار (وذرني) يا محمد (والمكذبين) الذين يكذبونك فيما تدعوهم إليه من التوحيد وإخلاص العبادة والاعتراف بالبعث والنشور، والثواب والجزاء، كما يقول القائل: دعني وإياه إذا أراد أن يهدده، يقال: يذر بمعنى يترك، ويدع، ولا يستعمل ماضيه، ولا ماضي (يدع) ولا يقال: وذر، ولا ودع، استغناء بقولهم ترك عن ذلك، لان الابتداء بالواو عندهم مكروه، ولذلك أبدلوا منها الهمزة في قولهم (أقتت) والأصل (وقتت)، وقالوا (تخمة) والأصل (وخمة) وكذلك كل ما يصرف منه مما في أوله واو إلا قولهم: وادع من الدعة فلم يستغنوا عنه بتارك. وقوله (اولي النعمة) معناه ذوي النعمة أي أصحاب النعمة، والنعمة - بفتح النون - لين الملمس وضدها الخشونة، ومعناه (وذرني والمكذبين) أي ارض بعقاب المكذبين لست تحتاج إلى أكثر من ذلك كما يقال: دعني وإياه، فإنه يكفيه ما ينزل به من غير تقصير مما يقع به، وهذا تهدد شديد. وقوله (ومهلهم قليلا) أي اخرهم في المدة قليلا فالتمهيل التأخير في المدة، وقد يكون التأخير في المكان، فلا يسمى تمهيلا، فإذا كان في المدة فهو تمهيل كما أن التأخير في الأجل تأجيل آخر. وقوله (إن لدينا انكالا) أي قيودا - في قول مجاهد وقتادة - واحدها نكل (وجحيما) أي نارا عظيمة، وجحيم اسم من أسماء جهنم (وطعاما ذا غصة) قال ابن عباس: معناه ذا غصة بشوك يأخذ الحلق، فلا يدخل ولا يخرج. وقيل: معناه يأخذ بالحلقوم لخشونته وشدة تكرهه (وعذابا أليما) أي عقابا موجعا مؤلما. ثم بين متى يكون ذلك فقال (يوم ترجف الأرض) أي اعتدنا هذه الأنواع من العذاب في يوم ترجف الأرض أي تتحرك باضطراب شديد (والجبال) أي وترجف الجبال معها أيضا (وكانت الجبال كثيبا مهيلا) قال ابن عباس: تصير الجبال رملا سائلا متناثرا، فالكثيب الرمل المجتمع الكثير، ومهيل مفعول من هلت الرمل اهيله وذلك إذا حرك أسفله فسال أعلاه، ويقال: مهيول كما يقال مكيل ومكيول، وانهال الرمل انهيالا و (الغصة) تردد اللقمة في الفم لا يسيغها الذي يروم أكلها قال الشاعر:

لو بغير الماء حلقي شرق * كنت كالغصان بالماء اعتصاري (1)

يقال غص بريقه يغص غصصا، وفي قلبه غصة من كذا، وهي كاللدغة التي لا يسيغ معها الطعام ولا الشراب. وقوله (إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم) اخبار من الله تعالى وخطاب للمكلفين في عصر النبي صلى الله عليه وآله ومن بعده بأنه أرسل إليهم رسولا يدعوهم إلى عبادته وإخلاص توحيده (شاهدا عليكم) بقبولهم إن قبلوا وعليهم إن لم يقبلوا (كما أرسلنا) أي أرسلناه إليكم مثل ما أرسلنا (إلى فرعون رسولا) يعني موسى ابن عمران عليه السلام. ثم اخبر عن فرعون فقال (فعصى فرعون الرسول) يعني موسى، فلم يقبل منه ما أمره به ودعاه إليه (فأخذناه أخذا وبيلا) أي اخذا ثقيلا شديدا عقوبة له على عصيانه موسى رسول الله، وكل ثقيل وبيل، ومنه: كلا مستوبل أي متوخم لا يستمرء لثقله، ومنه الوبل، والوابل، وهو المطر العظيم القطر، ومنه الوبال وهو ما يغلظ على النفس وأصله الغلظ قال طرفة:

فمرت كهاة ذات خيف جلالة * عقيلة شيخ كالوبيل يلندد (2)

الوبيل - ههنا - الغليظ من العصى و (كهاة) ناقة مسنة و (الخيف) جلد الضرع و (يلندد) شديد الخصومة. قوله (فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا) أي إن كفرتم بالله وجحدتم نعمه، وكذبتم رسوله، وإنما جعل الولدان، وهم الأولاد الصغار شيبا لشدته، وعظم أهواله، كما يقال: قد حدث أمر تشيب منه النواصي. وقيل: (يوما يجعل الولدان شيبا) على وجه المثل، والشيب جمع أشيب، يقال: شاب الانسان يشيب شيبا إذا ابيض شعره. ثم زاد في صفة شدة ذلك اليوم أيضا فقال (السماء منفطر به) أي متصدع بشدة ذلك اليوم، وإنما لم يقل منفطرة، لأنه جرى على طريق النسبة أي ذات انفطار، ولم يجر على طريق (فاعلة) كما قالوا للمرأة: مطفل أي ذات طفل. وقال الزجاج: تقديره السماء منفطر باليوم مثقلة به. وقال الحسن: معناه السماء مثقل به. وقال غيره: السماء مثقلة بذلك اليوم من شدته. وقال قوم: معناه متشقق بالامر الذي يجعل الولدان شيبا. والسماء يؤنث ويذكر، فمن ذكر أراد السقف. وقوله (كان وعده مفعولا) معناه إن ما وعد الله به فلا بد من كونه، فلذلك عبر عنه بلفظ الماضي فكأنه قد وجد. ثم قال (إن هذه تذكرة) أي هذه القصة التي ذكرناها وبيناها (تذكرة) أي عظة لمن انصف من نفسه وفكر فيها، فالتذكرة التبصرة، وهي الموعظة التي يذكر بها ما يعمل عليه. وقوله (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) معناه إن من شاء من المكلفين اتخذ إلى ثواب ربه سبيلا، لأنه قادر على الطاعة التي لو فعلها وصل إلى الثواب. والله تعالى قد دعاه إلى ما يوصله إليه ورغبه فيه، وبعث رسولا يدعوه أيضا إليه. وإن لم يفعل فسبوء اختياره انصرف عنه.


1- مر في 1 / 130، 421 و 6 / 151.

2- ديوانه 38 وتفسير القرطبي 18 / 48.