الآيات 21-28 من سورة الجنّ

قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا، قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا، إِلاَّ بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا، حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا، قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا، لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾

القراءة:

قرأ (ليعلم) بضم الياء يعقوب. الباقون بفتح الياء. أمر الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وآله أن يقول للمكلفين (اني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا) ومعناه إني لا أقدر على دفع الضرر عنكم ولا إيصال الخير إليكم، وإنما يقدر على ذلك الله تعالى. وإنما أقدر على أن أدعوكم إلى الخير وأهديكم إلى طريق الرشاد، فان قبلتم نلتم الثواب والنفع، وان رددتموه نالكم العقاب وأليم العذاب، ثم قال أيضا (قل) لهم يا محمد (اني لن يجيرني من الله أحد) أي لا يقدر أن يجير على الله حتى يدفع عنه ما يريده به من العقاب (ولن أجد) أيضا انا (من دنه) أي من دون الله (ملتحدا) يعنى ملتجأ ألجأ إليه أطلب به السلامة مما يريد الله تعالى فعله من العذاب والألم. وأضافه إلى نفسه، والمراد به أمته، لأنه لا يفعل قبيحا فيخاف العقاب. والمعنى ليس من دون الله ملتحد أي ملجأ. وقوله (الابلاغ من الله ورسالاته) معناه لكن أملك البلاغ من الله الذي هو بلاغ الحق لكل من ذهب عنه وأعرض عن اتباعه بأن أرشده إلى الأدلة التي نصبها الله له وأمر بالدعاء إليها سائر عباده المكلفين، كما أمر أنبياءه بتبليغ رسالاته، فيكون التقدير لا أملك إلا بلاغا من الله ورسالاته. وقيل يجوز أن يكون المراد لن يجيرني من الله أحد إن لم أبلغ رسالاته، فيكون نصب البلاغ على اضمار فعل من الجزاء، كقولك إن لا قياما فقعودا وان لا عطاء فردا جميلا فتكون (لا) منفصلة من (إن) وتقديره إن لا أبلغ بلاغا من الله ورسالاته. ثم قال (ومن يعص الله ورسوله) بأن خالف ما أمراه به وارتكب ما نهياه عنه (فان له نار جهنم) جزاء على ذلك (خالدين فيها ابدا) أي مقيمين فيها على وجه التأبيد والقراء على كسر (فان) على الابتداء. وروي عن طلحة بن مصروف انه فتح على تقدير فجزاءه أن له. وقال ابن خالويه: سألت ابن مجاهد عن ذلك، فقال: هو لحن. وقال بعض أهل النظر: زعم أبو عبيدة: ان ما كان من قول الجن فهو مكسور نسقا على قوله (إنا سمعنا) ومن فتح فعلى قوله (قل أوحي) إلي، وهو اختيار ابن خالويه. وقوله (حتى إذا رأوا ما يوعدون) يعني ما يوعدون به من العقاب على المعاصي (فسيعلمون) عند ذلك (من أضعف ناصرا) يدفع منه عقاب الله ومن (أقل عددا) يستنصر بهم الكفار أم المؤمنون؟. وقيل معناه أجند الله أم الذين عبده المشركون؟وإنما قال (من أضعف ناصرا) ولا ناصر لهم في الآخرة، لأنه جاء على جواب من توهم انه إن كانت لهم أخوة فناصرهم أقوى وعددهم أكثر. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله (قل إن أدري) أي قل لهم لست اعلم (أقريب ما توعدون) به من العقاب (أم يجعل له ربي أمدا) أي غاية ينتهي إليها بعينها أم يؤخره الله تعالى إلى مدة لا يعلمها بعينها إلا الله تعالى الذي هو (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا) ثم قال (إلا من ارتضى من رسول) فإنه ربما أطلعه على ما غاب عن غيره من الخلائق بأن يوحي إليهم بما شاء من الغيب - ذكره قتادة - (فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) ومعناه إن الله إذا نزل الملك بالوحي ارسل معه رصدا يحفظون الملك من أن يأتي أحد من الجن ويسمع الوحي، ونصب (رصدا) على المفعول، كأنه قال يجعل رصدا يسلك من بين يديه ومن خلفه (ليعلم ان قد ابلغوا) معناه ليظهر المعلوم من التبليغ. وقال قتادة: معناه ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربهم. وقال سعيد بن جبير: ليعلم الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم على إحاطة بهم وتحصين لما بلغوا من رسالاته. وقال الزجاج: ليعلم الله أن قد أبلغوا. وقوله (وأحاط بما لديهم) معناه انه يعلم ما عندهم فيحيط بما لديهم فيصير في معلومه بمنزلة ما أحيط به (وأحصى كل شئ عددا) معناه انه يعلم الأشياء مفصلة بمنزلة من يحصيها ليعلمها كذلك. وقال الزجاج: نصب (عددا) يحتمل شيئين:

أحدهما: وأحصى كل شئ في حال العدد، فيكون العدد بمعنى المعدود، كما يقال: للمنقوص نقص، فلا يخفى عليه شئ من الأشياء، لا سقوط ورقة، ولا حبة في ظلمات الأرض.

الثاني: أن يكون بمعنى المصدر، وتقديره وأحصى كل شئ احصاء. وقال الجبائي معنى (ليعلم ان قد أبلغوا) أي ليبلغوا (رسالات ربهم) فعبر عن المعلوم بالعلم كما يقال: ما علم الله مني ذلك أي ما فعلته، لأنه لو فعله لعلم الله ذلك (وأحصى كل شئ عددا) معناه انه لا شئ يعلمه عالم أو يذكره ذاكر إلا وهو تعالى عالم به ومحص له. والاحصاء فعل، وليس هو بمنزلة العلم، فلا يجوز ان يقال أحصى مالا يتناهى كما يجوز ان يقال: علم ما لا يتناهى، لان الاحصاء مثل المحصي لا يكون إلا فعلا متناهيا، فإذا لم يجز ان يفعل ما لا يتناهى لم يجز ان يقال يحصي ما لا يتناهى. والفرق بينهما واضح.