الآيات 1-6 من سورة نوح
مكية في قول ابن عباس والضحاك وغيرهما. وهي ثمان وعشرون آية في الكوفي، وتسع عشرون في البصري، وثلاثون في المدنيين
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا﴾
القراءة:
قرأ (ان عبدوا الله) بكسر النون عاصم وحمزة وأبو عمرو، على أصل التقاء الساكنين. الباقون بالضم اتباعا للضمة على الباء في (عبدوا الله) وقرأ الفراء (دعائي) ممدودا إلا شبلا عن ابن كثير، فإنه قصر، وفتح الياء مثل عصاي قال أبو علي: فتح الياء وإسكانها حسنان، فاما قصر الكلمة فلم اسمعها، ويجوز أن تكون لغة. يقول الله تعالى مخبرا عن نفسه (إنا أرسلنا نوحا) أي بعثنا نوحا نبيا (إلى قومه أن انذر قومك) أي بأن انذر قومك، فموضع (أن) نصب بسقوط الباء. وقال قوم: موضعه الجر لقوة حذفها مع (أن). وقال آخرون: يجوز أن تكون (أن) بمعنى أي المفسرة، فلا يكون لها موضع من الاعراب. وقرأ ابن مسعود (أرسلنا نوحا إلى قومه أنذر) بلا (أن) لان معنى الارسال معنى القول فكأنه قال: قلنا له: أنذر قومك. والانذار التخويف بالاعلام بموضع المخافة ليتقى. ونوح عليه السلام قد انذر قومه بموضع المخافة وهي عبادة غير الله، وانتهاك محارمه، وأعلمهم وجوب طاعته وإخلاص عبادته. وقوله (من قبل أن يأتيهم عذاب اليم) معناه اعلمهم وجوب عبادة الله وخوفهم خلافه من قبل أن ينزل عليهم العذاب المؤلم، فإنه إذا نزل بهم العذاب لم ينتفعوا با لانذار ولا تنفعهم عبادة الله حينئذ، لأنهم يكونون ملجئين إلى ذلك. وقال الحسن: أمره بأن ينذرهم عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة. ثم حكى أن نوحا عليه السلام امتثل ما أمره الله به و (قال) لقومه (يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه) أي مخوفكم عبادة غير الله أو أحذركم معصية الله مظهر ذلك لكم (واتقوه) بترك معاصيه (وأطيعون) فيما أمركم به لان طاعتي مقرونة بطاعة الله، وتمسككم بطاعتي لطف لكم في التمسك بعبادة الله، واتقاء معاصيه، فلذلك وجب عليكم ما أدعوكم إليه على وجه الطاعة، وطاعة الله، واجبة عليكم لمكان النعمة السابغة عليكم التي لا يوازيها نعمة منعم. ثم بين لهم ما يستحقون على طاعة الله وطاعة رسوله فقال متى فعلتم ذلك (يغفر لكم من ذنوبكم) ودخلت (من) زائدة وقيل (من) معناها (عن) والتقدير يصفح لكم عن ذنوبكم، وتكون عامة. وقيل: إنها دخلت للتبعيض، ومعناها يغفر لكم ذنوبكم السالفة، وهي بعض الذنوب التي تضاف إليهم، فلما كانت ذنوبهم التي يستأنفونها لا يجوز الوعد بغفرانها مطلقا - لما في ذلك من الاغراء بالقبيح - قيدت هذا التقييد. وقيل: معناها (يغفر لكم من ذنوبكم) بحسب ما تكون التوبة متعلقة بها، فهذا على التبعيض إن لم يقلعوا إلا عن البعض. وهذا على مذهب من يقول: تصح التوبة من قبيح مع المقام على قبيح آخر يعلم قبحه. وقال الزجاج: دخلت (من) لتخص الذنوب من سائر الأشياء، لا لتبعيض الذنوب. وأكثر النحويين وأكثر القراء على إظهار الراء عند اللام في (يغفر لكم) وأختار أبو عمرو الادغام، لان إذهاب التكرير لا يخل، لان الثاني مثل الأول. وإنما يخل إذهاب ماله حس في المسموع، كالذي لحروف الصفير وبحروف المد واللين وقوله (ويؤخركم إلى أجل مسمى) عطف على الجزاء فلذلك جزمه، والمعنى إنكم إن أطعتم الله ورسوله غفر لكم ذنوبكم وأخركم إلى الأجل المسمى عنده وفي الآية دليل على الأجلين، لان الوعد بالأجل المسمى مشروط بالعبادة والتقوى، فلما لم يقع اقتطعوا بعذاب الاستئصال قبل الأجل الأقصى بأجل أدنى. وكل ذلك مفهوم هذا الكلام. وقيل تقديره إن الأجل الأقصى لهم إن آمنوا، وليس لهم إن لم يؤمنوا، كما أن الحنة لهم إن آمنوا وليست لهم إن لم يؤمنوا. ثم اخبر (ان أجل الله) الأقصى إذا جاء لا يؤخر (لو كنتم تعلمون) صحة ذلك وتؤمنون به، ويجوز ذلك أن يكون اخبارا من الله عن نفسه، ويجوز أن يكون حكاية عن نوح أنه قال ذلك لقومه. ثم حكى تعالى ما قال نوح لله تعالى فإنه قال يا (رب اني دعوت قومي ليلا ونهارا) إلى عبادتك وخلع الأنداد من دونك والى الاقرار بنبوتي (فلم يزدهم دعائي الا فرارا) أي لم يزدادوا بدعائي الا فرارا عن قبوله وبعدا عن استماعه، وإنما سمي كفرهم عند دعائه زيادة في الكفر، لأنهم كانوا على كفر بالله وضلال عن حقه، ثم دعاهم نوح إلى الاقرار به وحثهم على الاقلاع عن الشرك، فلم يقبلوا، فكفروا بذلك، فكان ذلك زيادة في الكفر، لان الزيادة إضافة شئ إلى مقدار بعد حصوله منفردا، ولو حصلا ابتداء في وقت واحد لم يكن أحدهما زيادة على الاخر، ولكن قد يكون زيادة على العطية. قيل: وإنما جاز أن يكون الدعاء إلى الحق يزيد الناس فرارا منه للجهل الغالب على النفس، فتارة يدعو إلى الفرار مما نافره، وتارة يدعو إلى الفساد الذي يلائمه ويشاكله فمن ههنا لم يمتنع وقوع مثل هذا، والفرار ابتعاد عن الشئ رغبة عنه أو خوفا منه، فلما كانوا يتباعدون عن سماع دعائه رغبة عنه كانوا قد فروا منه.