الآيات 36-44 من سورة المعارج
قوله تعالى: ﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ، أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ، كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ، فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ، عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُون﴾
القراءة:
قرأ (نصب) بضمتين أهل الشام، وحفص عن عاصم، وسهل، على أنه جمع (نصب) مثل رهن ورهن - في قول أبي عبيدة - وقال غيره: هما لغتان، مثل ضعف وضعف. الباقون بفتح النون خفيفة. والنصب الصنم الذي كانوا يعبدونه، سمي بذلك. وقيل: النصب نصب الصنم الذي كانوا يعبدونه. وقيل: معناه إلى علم يسبقون إليه قد نصب لهم. وقرأ الأعشى (يخرجون) بضم الياء. الباقون بفتحها أضافوا الخروج إليهم. يقول الله تعالى على وجه الانكار على الكفار (فما للذين كفروا) ومعناه أي شئ للذين كفروا بتوحيد الله وجحدوا نبوتك (قبلك مهطعين) أي نحوك مسرعين - في قول أبي عبيدة - وقال الحسن: معناه منطلقين. وقال قتادة: عامدين وقال ابن زيد: معناه لا يطرقون أي شاخصون. وجميع ذلك بمعنى الاسراع إلى الشئ فمرة بتشوقه ومرة بقصده ومرة بشخوصه. وقال الزجاج: المهطع المقبل ببصره على الشئ لا يزايله، وذلك من نظر العدو، وإنما أنكر عليهم الاسراع إليه لأنهم أسرعوا إليه ليأخذوا الحديث منه ثم يتفرقون عزين بالتكذيب عليه - ذكره الحسن - وقيل: أسرعوا إليه شخوص المتعجب منه. وقيل: أسرعوا إليه لطلب عيب له. وقيل: معناه فما للذين كفروا مسرعين في نيل الجنة مع الإقامة على الكفر والاشراك بالله في العبادة. وقوله (عن اليمين وعن الشمال عزين) قال ابن عباس: عن اليمين والشمال معرضين يستهزؤن، ومعنى (عزين) جماعات في تفرقة نحو الكراريس واحدهم عزة، وجمع بالواو والنون، لأنه عوض مما حذف منه، ومثله سنة وسنون وأصل عزة عزوة من عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره، وكل واحدة من هذه الجماعة مضافة إلى الأخرى، وقال الراعي:
أخليفة الرحمن إن عشيرتي * أمسى سوامهم عزين فلولا (1)
وقوله (أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم) فمن ضم الياء، وهم أكثر القراء جعل الفعل لما لم يسم. فاعله. وفتح الحسن الياء لأنهم إذا أدخلوا فقد دخلوا. ومعنى الآية الانكار عليهم قولهم: إن دخل أصحاب محمد الجنة، فانا ندخلها قبلهم لا محالة، فقيل وأي شئ لكم عند الله يوجب هذا؟ولم تحتقرون هؤلاء؟وقد خلقناهم جميعا مما يعلمون أي من تراب. وقوله (كلا إنا خلقناهم مما يعلمون) قال الحسن: خلقناهم من النطفة. وقال قتادة: إنما خلقت من قذر يا بن آدم فاتق الله. وقال الزجاج: أي من تراب، ثم من نطفة، فأي شئ لهم يدخلون به الجنة، وهم لك على العداوة، وهذا حجاج لان خلقهم من ماء مهين يقتضى أنهم خلقوا للعبادة، فجعل في خلقهم من هذا عبرة، ولولا ذلك لابتدأهم في نعيم الجنة، ولم يكن لتنقلهم في الصور والأحوال معنى في الحكمة، وقال بعضهم: المعنى خلقناهم من الذين يعلمون أو من الخلق أو الجنس الذي يعلمون ويفقهون، وتلزمهم الحجة، ولم يخلقهم من الجنس الذي لا يفقه كالبهائم والطير، وإنما قال (مما يعلمون) فجمع، لأنه قال قبل ذلك (خلقناهم) فجمع (يعلمون) ووجه أخر وهو أنه خلقهم من أجل ما يعلمون من الثواب والعقاب والتكليف للطاعات تعريضا للثواب، كما يقول القائل: غضبت عليك مما تعلم أي من أجل ما تعلم قال الأعشى:
أأزمعت من آل ليلى ابتكارا * وشطت على ذي هوى أن تزاوا (2)
على أنه لم يزمع من عندهم، وإنما أزمع من أجلهم للمصير إليهم. وقوله (فلا أقسم برب المشارق والمغارب) قسم من الله تعالى برب المطالع والمغارب، و (لا) مفخمة وقد بينا القول في ذلك. وقال ابن عباس: الشمس لها ثلاثمائة وستون مطلعا كل يوم مطلع لاتعود إليه إلا إلى قابل. وقوله (إنا لقادرون) جواب القسم وفيه إخبار من الله تعالى بأنه قاد (على أن نبدل) بالكفار (خيرا منهم) فالتبديل تصبير الشئ موضع غيره، بدله تبديلا وأبدله إبدالا، والبدل الكائن في موضع غيره. وقوله (وما نحن بمسبوقين) عطف على جواب القسم، ومعناه إن هؤلاء الكفار لا يفوتون بأن يتقدموا على وجه يمنع من لحاق العذاب بهم فلم يكونوا سابقين، ولا العقاب مسبوقا منهم، فالسبق نقدم الشئ في وقت قبل وقت غيره. والتقدير وما نحن بمسبوقين بفوت عقابنا إياهم، وكأنه لوفاتهم عقابنا لكنا قد سبقنا، وما نحن بمسبوقين. وقيل: معناه وما أهل سلطاننا بمسبوقين. وقيل: وما نحن بمغلوبين بالفوت. ثم قال على وجه التهديد لهم بلفظ الامر للنبي صلى الله عليه وآله (فذرهم) أي اتركهم (يخوضوا ويلعبوا) فان وبال ذلك عائد عليهم والعقاب المستحق على كفرهم حال بهم، واللعب عمل للترويج عن النفس بما هو حقير في العقل، كلعب الصبيان ومن جرى مجراهم من ناقصي العقل، ولا يجوز من الحكيم أن يفعل اللعب لغيره، لأنه عمل وضيع في الحكمة (حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) ومعناه حتى يروا اليوم الذي يوعدون فيه بالعقاب على المعاصي والثواب على الطاعات ثم بين صفة ذلك اليوم، فقال (يوم يخرجون من الأجداث) يعني من القبور وأحدها جدث وجدث. ونصب (سراعا) على الحال، ومعناه مسرعين (كأنهم إلى نصب يوفضون) شبههم في اسراعهم من قبورهم إلى أرض المحشر بمن نصب له علم أو صنم يستبقون إليه، والايفاض الاسراع أوفض يوفض ايفاضا إذا أسرع قال رؤبة. يمشي بنا الجد على أو فاض (3) إي على عجلة. والنصب نصب الصنم الذي كانوا يعبدونه. وقيل اسم الصنم نصب وجمعه نصب مثل رهن ورهن - في قول أبي عبيدة - وأنشد الفراء في الايفاض:
لانعتن نعامة ميفاضا * خرجاء ظلت تطلب الافاضا (4)
فخرجاء ذات لونبن، ويقال للقميص المرقع برقعة حمراء أخرج، لأنه خرج عن لونه، والافاض طلب ملجأ يلجأ إليه، وقال بشر بن أبي حازم: أهاجك نصب أم بعينك منصب وقال الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه * لعافية والله ربك فاعبدا (5)
وقوله (خاشعة أبصارهم) أي ذليلة خاضعة (ترهقهم ذلة) أي يغشاهم ويركبهم ذل وصغار وخزي لما يرون نفوسهم مستحقة للعقاب واللعن من الله. ثم قال تعالى (ذلك هو اليوم الذي كانوا يوعدون) به في دار التكليف فلا يصدقون به ويجحدونه، وقد شاهدوه في تلك الحال. وقوله (إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم) لا يدل على أنه تعالى قادر على أن يبدل بالكفار من هو خيرا منه ولم يخلقهم، فيكون قد أخل بالأصلح لأنه اخبر عن انه قادر على خير منهم وقد خلق قوما آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وبذلوا نفوسهم وأموالهم.
1- مجاز القرآن 2 / 27 والطبري 29 / 47.
2- ديوانه 80 واللسان (زمع).
3- اللسان (وفض).
4- اللسان (وفض).
5- مر في 1 / 465 و 4 / 18.