الآيات 11-25 من سورة المعارج
قوله تعالى: ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ، وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ، كَلَّا إِنَّهَا لَظَى، نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى، تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى، وَجَمَعَ فَأَوْعَى، إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلاَّ الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ، لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾
القراءة:
قرأ (نزاعة) - بالنصب - حفص عن عاصم على الحال. الباقون بالضم جعلوه بدلا من (لظى) و (لظى) اسم من أسماء جهنم معرفة، و (نزاعة) نكرة فلذلك نصبه حفص على الحال ومن جعلها بدلا من (لظى) وتقديره كلا إنها لظى، كلا إنها نزاعة للشوى، وضعف أبو علي نصبه على الحال، قال: لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال، ولظى اسم معرفة لا يمكن أن يكون بمعنى التلظي، فلا يعمل فيه الاعلى وجه ضعيف بأن يقال: مع أنها معرفة فمعناها بمعنى التلظي. قال والأجود أن ينصب بفعل آخر، وتقديره أعني نزاعة. لما وصف الله تعالى القيامة وأهوالها، واخبر أن الحميم لا يسأل حميا لشغله بنفسه، قال (يبصرونهم) قال ابن عباس وقتادة: يعرف الكفار بعضهم بعضا، ثم يفر بعضهم عن بعض، وقال مجاهد: يعرفهم المؤمنون، وقال قوم: يعرف اتباع الضلال رؤساءهم، وقول ابن عباس أظهر، لأنه عقيب ذكر الكفار. وقال هو كناية ينبغي ان يرجع إليهم. وقوله (يود المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه) أي بتمني العاصي، فالمودة مشتركة بين التمني وبين المحبة تقول: وددت الشئ إذا تمنيته ووددته إذا أحببته أود فيهما جميعا، وصفة ودود من المحبة. وقوله (لو يفتدي)، فالافتداء افتداء الضرر عن الشئ يبدل منه، فهؤلاء تمنوا سلامتهم من العذاب النازل بهم باسلام كل كريم عليهم. والفرق بين (يود لو يفتدي) و (يود أن يفتدي) أن (لو) تدل على التمني من جهة أنها لتقدير المعنى، وليس كذلك (أن) لأنها لاستقبال الفعل و (لو) للماضي، فلما كان الاعتماد على تصور المعنى صار في حكم الواقع، فلو قال قائل: حسبت أن يقوم زيد، لما دل على التمني، ولو قال حسبت لو يقوم زيد لدل على التمني فبان الفرق بينهما. وقوله (ببنيه) يعني بأولاده الذكور (وصاحبته) يعني زوجته (وأخيه) يعني ابن أبيه وأمه (وفصيلته التي تؤويه) فأفصيلة هي المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى أبوة خاصة، وهي الجماعة التي ترجع إلى أبوة خاصة عن أبوة عامة (ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه) أي يتمنى هذا الكافر بان يتخلص من بعذاب الله بأن يفتدى بهؤلاء كلهم، فقال الله تعالى (كلا) أي ليس ينجيه من عقاب الله شئ وقال الزجاج (كلا) ردع وتنبيه أي لا ينجيه أحد من هؤلاء فارتدعوا. وقوله (إنها لظى) فلظى اسم من أسماء جهنم مأخوذ من التوقد، ومنه قوله (فأنذرتكم نارا تلظى) (1) وموضع (لظى) رفع، لأنها خبر (ان) و (نزاعة للشوى) خبر آخر - على قول من رفع - ومن نصب جعله حالا، ويجوز أن تكون الهاء في (إنها) عمادا، ، و (لظى) ابتداء وخبرها (نزاعة) إذا رفع، قال الزجاج: ويجوز أن يكون كقولهم: هذا حلو حامض، وتقديره النار لظى، وهي انزاعة أيضا. ومعنى نزاعة كثيرة النزع وهو اقتلاع عن شدة. والاقتلاع أخذ بشدة اعتماد، والشوى جلدة الرأس. والشوى الكوارع والأطراف، والشوى ما عدا المقتل من كل حيوان، يقال: رمى فأشوى إذا أصاب غير المقتل، ورمى فأصمى إذا أصاب المقتل، ومنه الشوي، لان النار تأخذ الجلدة والأطراف بالتغير. والشوى الخسيس من المال. وقيل: ان جهنم تنزع جلدة الرأس وأطراف البدن، والشوى جمع سواة قال الأعشى:
قالت قتيلة ماله * قد حللت شيبا شواته (2)
وقال ابن عباس: نزاعة للشوى للجلد وأم الرأس. وقال أبو صالح: لحم الساق، وقال قتادة: الهام والأطراف. وقال الفراء: كل ما كان غير مقتل فهو شوى. وقال أبو عمر الدوري: كان الكسائي لا يقف على (كلا) في شئ من القرآن إلا على هذين في هذه السورة. وقال ابن خالويه: أعلم أن في القرآن ثلاثا وثلاثين موضعا (كلا) فليس في النصف الأول منه شئ، فمن وقف عليه جعله رد للكلام. ومن لم يقف جعله بمعنى حقا، قال الشاعر:
يقلن لقد بكيت فقلت كلا * وهل تبكي من الطرب الجليد (3)
فالطرب خفة تصيب الانسان لشدة الخوف قال الشاعر:
وأراني طربا في أثرهم * طرب الواله أو كالمختبل (4)
وقال في السرور:
اطربا وأنت قنسري * والدهر بالانسان دواري (5)
يقول أطربا وأنت شيخ. وقوله تعالى (تدعو من أدبر وتولى) قيل في معناه قولان:
أحدهما: إنه لا يفوت هذه النار كافر، فكأنها تدعوه فيجيبها كرها.
الثاني: ان يخرج لسان من النار فيتناوله كأنها داعية بأخذها، وهو كقوله (تكاد تميز من الغيظ) (6) وقال الفراء: وغيره: إن النار تدعو الكافر والفاسق، فتقول إلي إلي، وهذا يجوز إذا فعل الله تعالى فيها الكلام، ويضاف إليها مجازا. وقال قتادة: تدعو من أدبر وتولى عن طاعة الله. وقال مجاهد: من تولى عن الحق وقيل: معناه تدعو زبانيتها من أدبر وتولى عن طاعة الله. وقوله (وجمع فاوعى) معناه عمل فجمع المال في الدنيا وأدبر عن الحق وتولى، فالنار تدعوه بما يظهر فيها من أنه أولى بها. وقال مجاهد (جمع) المال (فاوعى) ولم يخرج حق الله منه، فكأنه جعله في وعاء على منع الحقوق منه. وقوله (إن الانسان خلق هلوعا) اخبار منه تعالى بان الانسان خلق هلوعا والهلوع هو الشديد الحرص، الشديد الجزع من الضجر - في قول ابن عباس وعكرمة - وقيل: معناه خلق ضعيفا عن الصبر على الجزع والهلع، لأنه لم يكن في ابتداء خلقه يهلع ولا يجزع ولا يشعر بذلك حال الطفولية، وإنما جاز ان يخلق الانسان على هذه الصفة المذمومة، لأنها تجري مجرى خلق سهوه القبيح ليجتنب المشتهى، لان المحنة في التكليف لا تتم إلا بمنازعة النفس إلى القبيح ليجتنب على وجه الطاعة لله تعالى، كما لا يتم إلا بتعريف الحسن من القبيح في العقل ليجتنب أحدهما ويفعل الاخر (إذا مسه الشر جزوعا) لو كان منقطعا عن الأول لكان مرفوعا، والجزع ظهور الفزع بحال تنبئ عنه (وإذا مسه الخير منوعا) معناه إذا نال الانسان الخير والسعة في الدنيا منع حق الله فيه من الزكاة وغيرها مما فرض الله عليه، فالمس الملاقاة من غير فعل، ويقال: مسه يمسه، وتماسا إذا التقيا من غير فعل، وماسه مماسة. والمنع هو القطع عن الفعل بما لا يمكن وقوعه معه، وهو على وجهين:
أحدهما: منع القادر ان يفعل.
الآخر: منع صاحب الحق أن يعطى حقه. والبخل منع الحق صاحبه. لما وصف الله تعالى الانسان بالصفات المذمومة استثنى من جملتهم من لا يستحق الذم، لان الانسان عبر به عن الناس، فهو لعموم الجنس، كما قال (إن الانسان لفي خسر ألا الذين) (7) وكذلك - ههنا - قال (إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون) ومعناه الذين يستمرون على أداء الصلاة التي أوجبها الله عليهم لا يخلون بها ولا يتركونها. وروي عن أبي جعفر عليه السلام أن ذلك في النوافل يديمون عليها وقوله (والذين هم على صلواتهم يحافظون) (8) في الفرائض والواجبات (والذين في أموالهم حق معلوم) فالحق وضع الشئ في موضعه على ما يقتضيه العقل والشرع من قولهم: حق الشئ يحق حقا، وحقه كقولك تحققه. والمال عبارة في الشرع عن مقدار معين من العين أو الورق يتعلق به وجوب الزكاة وأكثر ما يستعمل في اللغة في المواشي من الإبل والبقر والغنم. وقال ابن عباس: الحق المعلوم هو البر الذي يخرج في صدقة أو صلة رحم. وقال قتادة: هو الزكاة المفروضة (للسائل والمحروم) والسائل هو الذي يسأل ويطلب. والمحروم، قال ابن عباس: هو المحارف وقال الحسن: هو الذي حرم أن يعطى الصدقة بتركه المسألة. وقيل: هو الذي قد حرم الرزق وهو لا يسأل الناس. وقوله (عذاب يومئذ) قرئ بالفتح والكسر من (يومئذ) فمن كسر الميم فعلى أصل الإضافة، لان الذي أضيف إليه الأول مخفوض أيضا بالإضافة فهذا مضاف إلى مضاف. ومن فتح فلانه مضاف إلى غير متمكن مضاف إلى (إذ) و (إذ) مبهمة ومعناه يوم إذ يكون كذا ويكون كذا فلما كانت مبهمة وأضيف إليها بني المضاف إليها على الفتح وانشد:
لم يمنع الشرب منها غيران نطقت * حمامة في غصون ذات أو قال (9)
لما أضاف (غير) إلى (ان) بناها على الفتح، وهي في موضع رفع، وروي (غير أن) نطقت بالرفع.
1- سورة 92 الليل آية 14.
2- اللسان (شوا).
3- مقاييس اللغة 3 / 454.
4- مر في 3 / 21 و 5 / 247.
5- مر في 4 / 377، 505 و 8 / 63.
6- سورة 67 الملك آية 8.
7- سورة 103 العصر آية 2.
8- سورة 23 المؤمنون آية 9.
9- مر في 4 / 479 و 8 / 51 و 9 / 383.