الآيات 16-21 من سورة الملك

قوله تعالى: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ، وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ، أَوَلَمْ يَرَوْا إلى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ، أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ، أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير (واليه النشور وأمنتم) بواو في الوصل قلبا لهمزة الاستفهام واوا لضم ما قبلها. وقرأ أهل الكوفة وأهل الشام بهمزتين على أصولهم. الباقون بتحقيق الأولى وتخفيف الثانية. يقول الله تعالى مهددا للمكلفين وزاجرا لهم عن ارتكاب معاصيه والجحد لربوبيته على لفظ الاستفهام والمراد به تفخيم الامر وتعظيم التبكيت (أأمنتم من في السماء) فالا من هو اطمينان النفس إلى السلامة من الخوف، والامن علم بسلامة النفس من الضرر يقال أمن يأمن أمنا وأمنه يؤمنه إيمانا وأمانا، والمعنى أأمن من في السماء سلطانه وأمره ونهيه كما قال (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم) (1) أي وهو الله في السماوات وفي الأرض معلومه، لا يخفى عليه شئ منه. وقيل: أيضا يجوز أن يكون المراد (أأمنتم من في السماء) يعني الملك الكائن في السماء (ان يخسف بكم الأرض) بأمر الله، فإذا هي تمور أي تردد، فالمور هو التردد في الذهاب والمجيئ، يقال: مار يمور مورا فهو مائر، ومثله ماج يموج موجا. وقوله (أأمنتم من السماء أن يرسل عليكم حاصبا) فالحاصب الحجارة التي يرمى بها كالحصباء، حصبه بالحصباء يحصبه حصبا إذا رماه بها. ويقال الذي يرمى به حاصب أي ذو حصب كأن الحجر هو الذي يحصب. وقيل: تقديره آمنوا قبل ان يرسل عليكم حاصبا، كما أرسل على قوم لوط حجارة من السماء. وقوله (فستعلمون كيف نذير) فيه تهديد أي ستعرفون كيف تخويفي وترهيبي إن عصيتموني إذا صرتم إلى عذاب النار. ثم قال مقسما (ولقد كذب الذين من قبلهم) أي جحد من قبل هؤلاء الكفار من الأمم وحدانيتي وأشركوا بي غيري في العبادة وكذبوا رسلي (فأهلكتهم) واستأصلتهم (فكيف كان نكير) أي ألم أهلكهم بضروب النقمات والمثلاث. ثم قال منبها لهم على توحيده (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات) أي مصطفاة فوق رؤسهم في الجو باسطات أجنحتهم (ويقبضن) أي يضربن بها. أي من الطير ما يضرب بجناحيه فيدف، ومنه الصفيف والدفيف (ما يمسكهن إلا الرحمن) أي ليس يمنعهن من السقوط إلى الأرض إلا الرحمن الذي خلق لهم الآلات التي يصفون بها ويدفون، وما خلق فيها من القدرة على ذلك، ولولا ذلك لسقطت إلى الأرض. وقيل معنى ما يمسكهن إلا الرحمن بتوطئة الهواء لها، ولولا ذلك لسقطت، وفي ذلك أكبر دلالة، وأوضح عبرة بأن من سخر الهواء هذا التسخير هو على كل شئ قدير. والصف وضع الأشياء المتوالية على خط مستقيم، والقبض جمع الشئ من حال البسط. والامساك اللزوم المانع من السقوط. وقوله (إنه بكل شئ بصير) اخبار منه تعالى انه عالم بجميع الأشياء لا يخفى عليه شئ منها (بصير) بما للخلق من النفع والضر. ثم قال (أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن) أي من لكم معاشر الكفار يدفع عنكم عذاب الله إذا حل بكم (إن الكافرون إلا في غرور) معناه ليس الكافرون بالله العابدون للأوثان إلا في غرور أي يتوهمون أن ذلك أنفع لهم والامر على خلاف ذلك من المكروه. ثم قال (أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك) الله (رزقه) بأنت يزيله ويمنعه منكم، فينزل عليكم رزقه (بل لجوا في عتو ونفور) فاللجاج تقحم الامر كثيرا ردا للصارف عنه، يقال لجج في الامر يلج لجاجا، وقد لاجه ملاجة ولجج فلان في الحرب فهو يلج تلجيجا. ولما كان لهؤلاء المشركين صوارف كثيرة من عبادة الأوثان وهم يتقحمون على ذلك العصيان كانوا قد لجوا في عتوهم. والعتو الطغيان وهو الخروج إلى فاحش الفساد، يقال: عتا يعتو عتوا فهو عات وجمعه عتاة. والنفور الخروج عن الشئ هربا من الشعور بضرورة، ونقيض النفور القبول وقال الجبائي: قوله (أمن هذا الذي) إلى قوله (إن امسك رزقه) تعريف حجة عرفها الله لعباده فعرفوا وأقروا بها، ولم يردوا لها جوابا فقال الله (بل لجوا في عتو ونفور).


1- سورة 6 الانعام آية 3.