الآيات 6-10 من سورة الطلاق
قوله تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى، لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا، وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا، فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا﴾
القراءة:
خمس آيات في الكوفي والبصري والمدني الأخير: وست آيات في المدني الأول. عدوا (يا أولى الألباب) رأس آية. قرأ (من وجدكم) بكسر الواو، روح. الباقون بضمها، و هما لغتان. وحكى الفراء - فتح الواو - لغة ولم يحك الكسر. وحكى الزجاج: الكسرة ولم يحك بالفتحة. وقرأ ابن كثير (وكأين) خفيفة على وزن (كاهن) الباقون (كأين) مشددة الياء، والأصل (أي) إلا أنه حذف للتضعيف، كما يحذف من رب، وقدمت الياء وأخرت الهمزة نحو شاك وشائك. ثم قلبت الياء ألفا، لأنها في موضع حركة وقبلها فتحة نحو: رمي، وإنما احتمل هذا التغيير للعدول به عن معنى الاستفهام إلى معنى (كم) في التكثير على وجه الابهام. وقال قوم: في (كأين) لغتان (كأين) مشددة الياء و (كاين) على وزن (قايل) وقد قرأ بهما. وحكي ان أهل الحجاز يقولون: بكاين تبيع هذا الثوب. أي بكم تبيعه. يقول: الله تعالى مخاطبا لمن طلق زوجته يأمره أن يسكنها حيث يسكنه، وقد بينا أن السكني والنفقة يجب للرجعية بلا خلاف. فاما البائنة فلا سكنى لها ولا نفقة - عندنا - وهذا مذهب الحسن. وقد روت فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: لا نفقة للمبتوتة. وقال الشافعي ومالك لها السكنى والنفقة وهو قول معاوية وابن مسعود وعمر بن الخطاب. وقوله (من وجدكم) قال السدي معناه من ملككم. وقال ابن زيد: هو إذا قال صاحب المسكن لا أترك هذه في بيتي فليس من وجده. ويجوز له حينئذ أن ينقلها إلى غيره، والوجد ملك ما يجده المالك، وذلك أنه قد يملك المالك ما يغيب عنه. وقد يملك ما هو حاضر له، فذلك وجده، يقال: وجدت في المال وجدا ووجدة، ووجدت الضالة وجدانا، ووجدت الرجل صالحا وجودا. وقوله (ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) معناه لا تدخلوا الضرر عليهن بالتقصير في النفقة والسكنى والكسوة وحسن العشرة لتضيقوا عليهن في السكنى والنفقة، وأمر بالسعة. والمضارة المعاملة بما يطلب به ايقاع الضرر والمضارة المعاملة بما يطلب به إيقاع الضرر بصاحبه. وقد تكون المضارة من واحد كما يقال: طارقت النعل، وعافاه الله، ويمكن أن يكون من كل واحد منهما لصاحبه. والتضيق تقليل ما يحتاج إلى التصرف فيه عن مقدار الكفاية. وقد يكون التضييق في الرزق وفى المكان وفى الامر. و (ان كن) يعني النساء المطلقات (أولات حمل فانفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) أمر من الله تعالى بالانفاق على الحامل المطلقة سواء كانت رجعية أو مبتوتة، ولا خلاف في ذلك، وإنما يجب ان ينفق عليها بسبب ما في بطنها، وإنما تسقط نفقتها بالوضع. والحمل - بفتح الحاء - يكون على الظهر وفى البطن، ويقال للعدل - الحمل - بكسر الحاء. وقوله (فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) أمر من الله تعالى بأن الام المطلقة متى ولدت ورغبت في رضاع ولدها، كان على الأب أجرة الرضاع أجرة المثل، فان رضيت الأجنبية بشئ معلوم لأجرة الرضاع ورضيت بمثله الام كانت الام أولى، وإن لم ترض الام بذلك القدر كان للأب تسليمه إلى الأجنبية، وإن كان الولد لا يقبل إلا لبن الام أجبرت عليه. وإلا أدى إلى هلاك الولد. والرضاع سقي المرأة من لبنها للولد. ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) يعني ان المرضعة تصير بمنزلة الام، وأمها بمنزلة الجدة وأختها خالة، وبنتها أختا وابنها أخا، وهكذا سائر المحرمات. وقوله (وأتمروا بينكم بمعروف) فالائتمار أمر كل واحد لصاحبه بفعل من الافعال كالائتمار بالمعروف الذي يصطلحان عليه. وقوله (وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) خطاب للرجل ولزوجته المطلقة أنهما متى اختلفا في رضاع الصبي واجرته أرضعته امرأة أخرى فالتعاسر التمانع يتعذر من الامر كالتمانع بما يتعسر به رضاع الام، فمتى كان كذلك فالحكم فيه أن ترضعه امرأة أخرى ثم امر تعالى فقال (لينفق ذو سعة من سعته...) ومعناه ان كل انسان يجب عليه النفقة بحسب حاله فالغنى ينبغي ان يوسع في النفقة والفقير بحسب حاله. وقوله (ومن قدر عليه زرقه) معناه من ضيق عليه، لأنه أتى على مقدار البلغة التي تضيق عن غيره، فمن هذه صورته (فلينفق مما آتاه الله) على حسب امكانه وطاقته (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) يعني إلا بقدر ما أعطاها من الطافه. وفي ذلك دلالة على أنه تعالى لا يكلف أحدا مالا يقدر عليه ولا يطيفه. ثم قال (سيجعل الله بعد عسر يسرا) أي سيفعل الله بعد شدة سهولة، فاليسر اتيان الامر من غير مشقة، وهو سهولة الامر، وضده العسر، وهو صعوبة الامر. وقوله (وكأين من قرية) معناه و (كم من قرية) على التكثير، لأنه يخبر ب? (كم) عن الكثرة (عتت عن امر ربها) والعتو الخروج إلى فاحش الفساد. والمعنى كم من أهل القرية كفروا بالله وتجبروا عن طاعته وخرجوا بذلك إلى أفحش الفساد (ورسله) معناه عتوا عن امر الله وامر رسوله (فحاسبناها حسابا شديدا) فالحساب الاعمال مقابلة ما يستحق على الطاعة وبما يستحق على المعصية والحساب الشديد مقابلة ذلك من غير تجاوز عن صغيرة ولا عفو عن ذنب، وذلك أن الكافر يعاقب على كل صغيرة وكبيرة من حيث إنه لا طاعة معه تكفر معاصيه. وقوله (وعذبناها عذابا نكرا) معناه عذبنا أهل تلك القرية العاتية عذابا نكرا، وهو الذي ينكره الطبع وتأباه النفوس لصعوبته وشدته. والامر النكر الذي ينكره العقل. وقوله (فذاقت وبال أمرها) فالوبال عاقبة السوء، أسند الفعل إلى القرية، فلذلك أنث قوله (فذاقت) ولو قال: (عتوا، عن أمر ربهم، وعذبناهم فذاقوا) على المعنى كان جائزا. والوبال ثقل العائد من الضر. وقيل: ان معنى نكر أنه متجاوز في الشدة لكل ما عرفوه في الدنيا من العقوبة (وكان عاقبة أمرها حسرا) أي وكان آخر أمر تلك القرية العاتية خسرا أي هلاك أنفسهم، وأصله هلاك رأس المال. ثم بين مالهم في الآخرة، فقال (أعد الله لهم عذابا شديدا) من عذاب النار يعاقبهم به على طريق التأبيد موجعا شديد الألم (فاتقوا الله) يا معاشر العقلاء (يا أولوا الألباب الذين آمنوا) يعني المؤمنين منهم، وخصهم بالذكر والخطاب، لأنهم المنتفعون بذلك دون الكفار. وقوله تعالى (قد أنزل الله إليكم ذكرا) قال قوم: أراد بالذكر القرآن لأنه سماه ذكرا في قوله (إنا نحن نزلنا الذكر) (1) ذهب إليه السدي وابن زيد، فعلى هذا تقديره انزل الله إليكم ذكرا وارسل إليكم رسولا، وسماه ذكرا لأنه يتذكر به ما يجب العمل به والانتهاء عنه. وقيل إن معنى الذكر الشرف كأنه قال: أنزل الله إليكم شرفا. وقيل: المراد بالذكر الرسول لقوله (فاسألوا أهل الذكر) (2) ذهب إليه الحسن، فعلى هذا يكون (رسولا) بدلا منه، وتقديره أنزل الله إليكم ذكرا هو رسوله. قال الزجاج: تقديره فأنزل الله إليك ان ذكر رسولا هو جبرائيل عليه السلام.
1- سورة 15 الحجر آية 9.
2- سورة 16 النحل آية 43 وسورة 21 الأنبياء آية 7.