الآيات 1-5 من سورة الطلاق
مدنية في قول ابن عباس وعطاء والضحاك وغيرهم وهي اثنتا عشرة آية في الكوفي والمدنيين وعشر في البصري.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا، ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾
القراءة:
قرأ حفص عن عاصم ونافع (بالغ أمره) على الإضافة. الباقون (بالغ) منون (أمره) منصوب. وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى. وقيل: إنه إذا نون معناه انه تعالى بالغ مراده، وإذا أضيف فمعناه أن امره تعالى يبلغ، فيكون إضافة إلى الفاعل. يقول الله تعالى مخاطبا لنبيه والمراد به أمته (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) ومعناه إذا أردتم طلاق النساء، كما قال (إذا قمتم إلى الصلاة) (1) وروي عن ابن عباس أنه قال: نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة، فيكون الخطاب للنبي والمراد به الأمة من ذلك. وقال قوم: تقديره يا أيها النبي قل لامتك إذا طلقتم النساء، فعلى هذا القول: النبي يكون خارجا من الحكم. وقال آخرون: هو على خطاب الرئيس الذي يدخل فيه الاتباع، فعلى هذا حكم النبي حكم أمته في هذا الحكم وأجمعت الأمة على أن حكم النبي حكم الأمة في الطلاق. والطلاق في الشرع عبارة عن تخلية المرأة بحل عقدة من عقد النكاح بأن يقول: أنت طالق يخاطبها أو يقول هذه طالق ويشير إليها أو فلانة طالق بنت فلان. وعندنا لا يقع الطلاق إلا بهذا اللفظ المخصوص، ولا يقع بشئ من الكنايات طلاق أراد بها الطلاق أو لم يرد. وفيه خلاف ذكرناه في الخلاف. واما الفراق فقد يحصل بغير الطلاق، كالارتداد واللعان والخلع - عند كثير من أصحابنا - وإن لم يسم ذلك طلاقا. وأما فسخ النكاح بالرد بالعيب. فقد يحصل بأشياء ولا يسمى طلاقا. ومن شرط وقوع الطلاق - عندنا - أن تكون المرأة طاهرا طهرا لم يقر بها فيه بجماع بمحضر من شاهدين، ويقصد به ايقاع الطلاق، ويتلفظ بما قدمناه، فحينئذ يقع طلاقه تطليقة واحدة وهو أملك برجوعها ما لم تخرج من العدة. فان خرجت قبل ان يراجعها كان كواحد من الخطاب. ومتى تلفظ بثلاث تطليقات، فان كانت المرأة طاهرا مع باقي الشروط وقعت واحدة. وخالف جميع الفقهاء في ذلك. وقالوا: يقع الثلاث. ثم اختلفوا فقال الشافعي، ومن وافقه: ويكون ذلك مسنونا. وقال أهل العراق: المسنون ان يطلقها طلقة واحدة بلفظ واحد، ومتى أوقع ثنتين أو ثلاثا وقع. وأما غير المدخول بها فعند جميعهم يقع الثلاث، ولا عدة عليها، وعندنا لا يقع إلا واحدة، وفي أصحابنا من يقول: من تلفظ بالثلاث لا يقع شئ، والاعتماد على ما قلناه أولا، ومتى طلقها ثلاثا أو واحدة، وهي حائض وكان قد دخل بها ولا يكون غائبا عنها شهرا فصاعدا لا يقع عندنا شئ أصلا. وقال جميع الفقهاء: هو بدعة. وتبين المرأة بذلك. وقوله تعالى (فطلقوهن لعدتهن) معناه أن يطلقها وهي طاهر من غير جماع ويستوفي باقي الشروط. وقال ابن عباس: هو أن يطلقها طاهرا من غير جماع. وبه قال مجاهد والحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي، فعلى هذا متى طلقها في الحيض فلا يقع طلاقها، لأنه خلاف المأمور به، وهو منهي عنه، والنهي يدل على فساد المنهي عنه وعند الفقهاء إنه يقع الطلاق، وإن كان بدعة. ثم قال (واحصوا العدة) فالعدة قعود المرأة عن الزواج حتى تنقضي المدة المرتبة في الشريعة، وعدة المرأة على ضروب:
أحدها: عدة التي لم تبلغ المحيض، ومثلها لا تحيض، وهي التي لم تبلغ تسع سنين، فهذه لا عدة عليها - عند أكثر أصحابنا - وفيهم من قال عدتها بالشهور، وبه قال باقي الفقهاء. وعدة التي لا تحيض ومثلها تحيض ثلاثة اشهر بلا خلاف. وعدة التي تحيض ثلاثة أقراء وهي الأطهار - عندنا وعند كثير من الفقهاء - وعند قوم انها الحيض. وعدة التي ارتفع حيضها ومثلها تحيض ثلاثة اشهر بلا خلاف. وقد حد ذلك أصحابنا بأن يكون سنها أقل من خمسين سنة. وعدة الآيسة من المحيض ومثلها لا تحيض، فلا عدة عليها - عند أكثر أصحابنا ?
وقال قوم: عدتها بالأشهر، وحد ذلك أصحابنا بأن يزيد سنها على خمسين سنة، والقرشية حدوها بستين سنة فصاعدا. وعدة الحامل وضع ما في بطنها إذا كانت عدة الطلاق، فان كانت عدة الوفاة فأبعد الأجلين من وضع الحمل أو مضي أربعة اشهر وعشرة أيام. وهو مذهب علي عليه السلام وابن عباس. وقال الفقهاء عدة المتوفى عنها زوجها وضع ما في بطنها وقوله (واحصوا العدة) يعني مدة زمان العدة. ثم قال (واتقوا الله ربكم) بان لا ترتكبوا المعاصي (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن) يعني زمان العدة، لأنه لا يجوز إخراجها من بيتها - وعندنا وعند جميع الفقهاء - يجب عليه السكنى والنفقة والكسوة إذا كانت المطلقة رجعية، فان كانت بائنا فلا نفقة لها ولا سكنى.
وقال الشافعي: فلا نفقة لها ولا سكنى إذا كانت بائنا.
وقال أهل العراق: لها السكنى والنفقة. وقوله (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) من فتح الياء أراد فاحشة أظهرت. ومن خفض الياء أراد بفاحشة ظاهرة.
وقال عطاء والضحاك وقتادة: لا يجوز ان تخرج من بيتها حتى تنقضي عدتها إلا عند الفاحشة.
وقال الحسن وعامر والشعبي ومجاهد وابن زيد: الفاحشة - ههنا - الزنا تخرج لإقامة الحد.
قال ابن عباس: الفاحشة النداء على أهلها، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام
وقال قتادة: الفاحشة هو النشوز.
وقال ابن عمر: هو خروجها قبل انقضاء العدة - وفي رواية عن ابن عباس - ان كل معصية لله ظاهرة فهي فاحشة. وقوله (وتلك حدود لله) يعني ما تقدم ذكره من كيفية الطلاق والعدة وترك إخراجها عن بيتها إلا عند فاحشة حدود الله، فالحدود نهايات تمنع أن يدخل في الشئ ما ليس منه أو يخرج منه ما هو منه، فقد بين الله بالأمر والنهي الحدود في الطاعات والمعصية بما ليس لأحد ان يدخل في شئ من ذلك ما ليس منه أو يخرج عنه ما هو منه. وقوله تعالى (ومن يتعد حدود الله) معناه من يجاوز حدود الله بأن يخرج عن طاعته إلى معصيته، فقد تعدى حدا من حدود الله وكذلك من دخل في معصية، فقد خرج عن الطاعة. وليس كل من دخل في طاعة فقد خرج إليها عن معصية، لأنها قد تكون نافلة. ثم بين تعالى فقال: ومن يجاوز حدود الله (فقد ظلم نفسه) بأن فعل ما يستحق معه العقاب ويحرم معه الثواب وقوله (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) قال قوم: معناه لا تدري لعل الله يغير رأي الزوج في محبة الطلاق، فتكون مطلقة على ما أمر الله به ويملك الرجعة فيما بين والواحدة والثانية وما بين الثانية والثالثة. وقال الضحاك والسدي وابن زيد (لعل الله يحدث بعد ذلك امرا) يعني الرجعة في العدة. وقيل معناه (لعل الله يحدث بعد ذلك) شهوة المراجعة. وقوله (فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف) معناه فإذا قاربن أجلهن الذي هو الخروج عن عدتهن، لأنه لا يجوز أن يكون المراد فإذا انقضى أجلهن، لأنه عند انقضاء أجلهن لا يملك رجعتها. وقد ملكت نفسها وقد بانت منه بواحدة. ثم تتزوج من شاءت هو أو غيره. وإنما المعنى إذا قاربن الخروج من عدتهن فامسكوهن بأن تراجعوهن بمعروف بما يجب لها من النفقة والكسوة والمسكن وحسن الصحبة (أو فارقوهن بمعروف) بأن تتركوهن حتى يخرجن من العدة. وقوله (واشهدوا ذوي عدل منكم) فعند أصحابنا أن الاشهاد شرط في وقوع الطلاق، لان ظاهر الامر بذلك يقتضيه. والامر عندنا على الوجوب. وقال قوم: إن ذلك راجع إلى الرجعة، وتقديره واشهدوا على الامساك إن أمسكتم ذوي عدل منكم وهو الرجعة - في قول ابن عباس. وقال الشافعي: الاشهاد على الرجعة أولى. ويجوز عند أكثرهم بغير إشهاد، وإنما ذكر الله الاشهاد كما ذكر في قوله (واشهدوا إذا تبايعتم) (2) وهو على الندب، وهذا ترك الظاهر ومتى حملنا الاشهاد على الفراق، وهو الطلاق حملناه على ظاهره من الوجوب وجعلناه شرطا في وقوع الطلاق. ثم قال (وأقيموا الشهادة لله) إذا طولبتم بإقامتها (ذلكم) معاشر المكلفين (يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) فالوعظ معنى يدعو إلى الحق بالترغيب والترهيب. وإنما أضاف الوعظ إلى من يؤمن بالله واليوم الآخر دون غيره، لأنه الذي ينتفع به دون الكافر الجاحد لذلك، فالطاعة الواجبة فيها وعظ بالترغيب فيها باستحقاق الثواب وفي تركها بالعقاب. والمندوبة فيها وعظ باستحقاق المدح والثواب على فعلها والمعاصي فيها وعظ بالزجر عنها والتخويف من فعلها باستحقاق العقاب والذم على فعلها والترغيب في تركها بما يستحق على الاخلال به من الثواب. ثم قال (ومن يتق الله) يعني باجتناب معاصيه (يجعل له مخرجا) من عقابه (ويرزقه من حيث لا يحتسب) أي من حيث لا يتوقعه ولا يظنه (ومن يتوكل على الله) أي من اسند أمره إلى الله ووثق بحكمه وسكن إلى رحمته (فهو حسبه) أي كافيه جميع ذلك (إن الله بالغ أمره) أي يبلغ ما يريد ويشاء من أمره وتدبيره (قد جعل الله لكل شئ قدرا) أي قدر الله لكل شئ مقدارا واجلا، لا زيادة فيه ولا نقصان. ثم بين كيفية العدد باختلاف أحوال النساء، فقال (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهم ثلاثة اشهر) يعني ان اليائسة من المحيض إذا كانت ترتاب بنفسها ولا تدري أرتفع حيضها لكبر أو عارض (فعدتها ثلاثة اشهر) وهي التي قلنا أولا أن مثلها تحيض، لأنها لو كانت في سن من لا تحيض لم يكن لريبتها معنى. وقال الزهري وعكرمة وقتادة (إن ارتبتم) فلم تدروا: للكبر أو لدم الاستحاضة، فالعدة ثلاثة اشهر. وقال قوم: ان ارتبتم فلم تدروا الحكم في ذلك فعدتهن ثلاثة اشهر. وقوله (واللائي لم يحضن) تقديره واللائي لم يحضن إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة اشهر، وحذف لدلالة الكلام الأول عليه والكلام فيها كالكلام في اليائسة. وقال قتادة: اللائي يئسن الكبار، واللائي لم يحضن الصغار. ثم قال (وأولات الأحمال أجلهن ان يضعن حملهن) بين ان عدة الحامل من الطلاق وضع الحمل الذي معها، فان وضعت عقيب الطلاق فقد ملكت نفسها. ويجوز لها أن تعقد لغيره على نفسها، غير أنه لا يجوز له وطؤها، لان نفاسها كالحيض سواء، وإذا طهرت من نفاسها حل له ذلك، فان كانت حاملا باثنين ووضعت واحدا لم تحل للأزواج حتى تضع جميل الحمل، لقوله تعالى (أن يضعن حملهن) فاما انقطاع الرجعة، فقد روى أصحابنا أنها إذا وضعت واحدا انقطعت عصمتها من الأول، ولا يجوز لها العقد بغيره حتى تضع الاخر. فاما إذا توفى عنها زوجها، فعدتها - عندنا - أبعد الأجلين إن وضعت قبل الأربعة أشهر وعشر استوفت أربعة اشهر وعشرة أيام، وإن مضى بها أربعة اشهر وعشر ولم تضع انتظرت وضع الحمل. وقال ابن عباس: الآية في المطلقة خاصة، كما قلناه. وقال ابن مسعود وأبي بن كعب وقتادة والسدي وأكثر الفقهاء: إن حكم المطلقة والمتوفى عنها زوجها واحد في أنها متى وضعت حلت للأزواج. والذي اخترناه هو مذهب علي عليه السلام. ثم قال (ومن يتق الله) باجتناب معاصيه (يجعل له من أمره يسرا) يعني سهولة في أموره ولا يعسر عليه أمره. وقوله (ذلك أمر الله أنزله إليكم) يعني حكم الطلاق والرجعة والعدة فيما أنزله الله وحكم به وأمركم بالعمل به. ثم قال (ومن يتق الله) باجتناب معاصيه وفعل طاعاته (يكفر عنه سيئاته) التي هي دونها ويتفضل عليه باسقاط عقابها (ويعظم له اجرا) على ذلك يعني ثوابه ونعيمه في الجنة.
1- سورة المائدة آية 7.
2- سورة 2 البقرة آية 282.