الآيات 10-14 من سورة الصف
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إلى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾
القراءة:
قرأ ابن عامر (تنجيكم من عذاب اليم) مشددة الجيم. الباقون بالتخفيف وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو جعفر (أنصارا الله) منونا. الباقون بالإضافة لقولهم في الجواب (نحن أنصار الله) وقرأ نافع وحده (أنصاري إلى الله) بفتح الياء. الباقون باسكانها وهما جميعا جيدان. يقول الله تعالى مخاطبا للمؤمنين (يا أيها الذين آمنوا) بالله واعترفوا بتوحيده وإخلاص عبادته وصدقوا رسوله (هل أدلكم على تجارة) صورته صورة العرض والمراد به الامر. والتجارة طلب الربح في شراء المتاع. وقيل لطلب الثواب بعمل الطاعة تجارة تشببها بذلك، لما بينهما من المقاربة (تنجيكم) أي تخلصكم (من عذاب أليم) أي مؤلم، وهو عذاب النار. ثم فسر تلك التجارة فقال (تؤمنون بالله ورسوله) أي تعترفون بتوحيد الله وتخلصون العبادة له وتصدقون رسوله فيما يؤديه إليكم عن الله. وإنما قال (تؤمنون) مع أنه قال (يا أيها الذين آمنوا) لان ذلك جار مجرى قوله (يا أيها الذين آمنوا آمنوا) (1) وقد بيناه فيما مضى (2) (وتجاهدون في سبيل الله) يعني قتال أعدائه الكفار (بأموالكم) فتنفقونها في ذلك (وأنفسكم) فتحاربون بنفوسكم. ثم قال (ذلكم خير لكم) أي ما ذكرته لكم ووصفته أنفع لكم وخير عاقبة إن علمتم ذلك واعترفتم بصحته. وإنما قال (ذلكم خير لكم) مع أن تركه قبيح ومعصية لله، لان المعنى ذلكم خير لكم من رفعه عنكم، لان ما أدى إلى الثواب خير من رفعه إلى نعيم ليس بثواب من الله تعالى. والتكليف خير من رفعه إلى الابتداء بالنعم لكل من عمل بموجبه، وقيل: إيمانكم بالله خير لكم من تضييعه بالمشتهى من أفعالكم (إن كنتم تعلمون) مضار الأشياء ومنافعها وإنما جاز (تؤمنون بالله) مع أنه محمول على التجارة وخبر عنها، ولا يصلح أن يقال التجارة تؤمنون. وإنما يقال التجارة أن تؤمنوا بالله، لأنه على طريق ما يدل على خبر التجارة لا على نفس الخبر إذ الفعل يدل على مصدره وانعقاده بالتجارة في المعنى لا في اللفظ. وفى ذلك توطئة لما بنى على المعنى من الايجاز. والعرب تقول: هل لك في خير تقدم إلى فلان، فتعوده وأن تقدم إليه. وقوله (يغفر لكم ذنوبكم) أي متى فعلتم ذلك ستر عليكم ذنوبكم، وجزمه لأنه جواب (تؤمنون) لأنه في معنى آمنوا يغفر لكم. وقال الفراء: هو جواب (هل) وإنما جاز جزم (يغفر لكم) لأنه جواب الاستفهام. والمعنى هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم يعلمكم بها، فإنكم إن عملتم بها يغفر لكم ذنوبكم وكان أبو عمرو يدغم الراء في اللام في قوله (يغفر لكم) ولا يجوز ذلك عند الخليل وسيبويه، لان في الراء تكرار، ولذلك غلبت المستعلي في طارد. (ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار) عطف على قوله (يغفر لكم) فلذلك جزمه (خالدين فيها) أي مؤبدين (ومساكن طيبة) أي ولهم في الجنة مساكن طيبة مستلذة (في جنات عدن) أي في بساتين إقامة مؤبدة. ثم قال (ذلك الفوز العظيم) يعني الذي وصفه من النعيم هو الفلاح العظيم الذي لا يوازيه نعمة. وقيل: الفوز النجاة من الهلاك إلى النعيم. وقوله (وأخرى تحبونها) معناه ولكم خصلة أخرى مع ثواب الآخرة (نصر من الله) في الدنيا عليهم (وفتح قريب) لبلادهم. ثم قال (وبشر المؤمنين) بذلك أي بما ذكرته من النعيم والنصر في الدنيا والفتح القريب. ثم خاطب المؤمنين فقال (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله) ومعناه كونوا أنصار دين الله الذي هو الاسلام بأن تدفعوا أعداءه عنه وعن دينه الذي جاء به (كما قال عيسى بن مريم للحواريين) أي مثلكم مثل قول عيسى للحواريين، وهم خاصته، وسمي خاصة الأنبياء حواريين، لأنهم أخلصوا من كل عيب - في قول الزجاج - وقيل: سموا حواريين لبياض ثيابهم. وقال ابن عباس: كانوا صيادين للسمك. وقال الضحاك: كانوا غسالين. وقوله (من أنصاري إلى الله) يعني من أنصاري مع الله، و (إلى) تكون بمعنى (مع) ومثله (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) (3) يعني مع أموالكم. وقيل سمي النصارى نصارى لقولهم (نحن أنصار الله) وقيل: لأنهم كانوا من الناصرة وهي قرية في بلاد الروم، فأجابه الحواريون بأن قالوا (نحن أنصار الله) وإنما قيل لهم (كونوا أنصار الله) مع أن المراد به دين الله، تعظيما للدين وتشريفا له. كما يقال الكعبة بيت الله، وحمزة أسد الله، وما أشبه ذلك (فآمنت طائفة من بني إسرائيل) يعني صدقت بعيسى عليه السلام طائفة من بني إسرائيل (وكفرت) به (طائفة) أخرى (فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم) أي قوينا المؤمنين على عدوهم (فأصبحوا ظاهرين) أي غالبين لهم وقال إبراهيم: معناه أيد الذين آمنوا بعيسى بمحمد، فأصبحوا ظاهرين عليهم. وقال مجاهد: بل أيدوا في زمانهم على من كفر بعيسى عليه السلام وقال بعضهم ألم يكن من المسيح قتال. والتأويل أنهم أصبحوا ظاهرين على مخالفيهم بالحجة. وقال قوم: كانت الحرب بعد المسيح لما اختلف أصحابه اقتتلوا فظفر أهل الحق، وهذا ضعيف، لأنه لم يكن من دينهم بعده القتال. وقال ابن عباس قاتلوا ليلا فأصبحوا ظاهرين.
تم المجلد التاسع من التبيان ويليه المجلد العاشر وأوله أول سورة الجمعة طبع في محرم الحرام سنة 1383 ه? حزيران سنة 1963 م
تم مجلد التاسع من التبيان
1- سورة 4 النساء آية 139.
2- انظر 3 / 307، 359.
3- سورة 4 النساء آية 2.