الآيات 94-96
قوله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً، قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً، قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾
يقول الله تعالى وما صرف الناس، يعنى المشركين الذين لم يؤمنوا، وإنما أخبر عنه بالمنع مبالغة له في الصرف، لان المنع يستحيل معه الفعل، والصرف يمكن معه الفعل، لكنه لشدة صرفه شبه بالمنع. وقوله " أن يؤمنوا " اي ما صرفهم عن التصديق بالله ورسوله حين جاءهم الهدى، يعنى الحجج والبينات، وطريق الحق إلا قولهم " أبعث الله بشرا رسولا " فدخلت عليهم الشبهة في أنه لا يجوز من الله أن يبعث رسولا إلا من الملائكة، كما دخلت عليهم الشبهة في أن عبادتهم لا تصلح لله، فوجهوها إلى الأصنام، فعظموا الله تعالى بجهلهم، بما ليس فيه تعظيم. وهذا فاسد، لان تعظيم الله إنما يكون بأن يشكر على نعمته بغاية الشكر ويحمد غاية الحمد، ويضاف إليه الحق دون الباطل، وهم عكسوا فأضافوا الباطل إليه وما يتعالى عن فعله أو إرادته. وإنما عدلوا عن الهدى إلى الضلال تقليدا لرؤسائهم. واعتقادا للجهل بالشبهة. فان قيل لم جاز ان يرسل الله إلى النبي - وهو من البشر - ملكا ليس من جنسه؟ولم يجز أن يرسل إلى غير النبي مثل ذلك ؟! قلنا: لأنه صاحب معجزة، وقد اختير للهداية والمصلحة، فصارت حاله بذلك مقاربة لحال الملك، وليس كذلك غيره من الأمة، مع أن الجماعة الكثيرة ينبغي ان يتخير لها ما تجتمع عليه هممها بما لا يحتاج إليه في الواحد منا إذا أريد صلاح الجميع. وقيل: لأنهم لا يجوز ان يروا الملك، وهم على هذه الهيئة التي هم بها. على أنه يلزمهم على الامتناع من اتباع النبي - لأنه بشر مثلهم - الامتناع من اتباع الملك، لأنه عبد ومحدث مثلهم في العبودية والحدوث، فان جاز ذلك، لان الله تعالى عظمه وشرفه واختاره، جاز أيضا في البشر لمثل هذه العلة. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم " قل " لهم " لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين " قال الحسن معنى " مطمئنين " قاطنين فيها. وقال الجبائي: " مطمئنين " عن امر الله تعالى الذي يلزم بالاعراض عنه الذم، كما قال تعالى " ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه " (1). ثم قال له " قل " لهم كفى بالله، أي حسبي الله شهيدا وعالما بيني وبينكم " انه كان بعباده خبيرا بصيرا " أي عالما بكم وبي، مدرك لنا. ونصب " شهيدا " على التمييز، وتقديره حسبي الله من الشهداء، ويجوز أن يكون نصبا على الحال، وتقديره كفى الله في حال شهادته. وإنما قال هذا جوابا لهم حين قالوا: من يشهد لك بأنك رسول الله؟فقال الله له " قل كفى بالله شهيدا ".
1- سورة 7 الأعراف آية 176.