الآيات 70-72
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً، يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً، وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً﴾
اخبر الله تعالى: انه كرم " بني آدم " وإنما عنى بني آدم بالتكرمة مع أن فيهم كفارا، لان المعنى كرمناهم بالنعمة على وجه المبالغة في الصفة. وقال قوم: جرى ذلك مجرى قوله " كنتم خير أمة أخرجت للناس (1) " فاجرى الصفة على جماعتهم من اجل من فيهم على هذه الصفة. ثم بين تعالى الوجوه التي كرم بها بني آدم بأنه حملهم في البر والبحر على ما يحملهم من الإبل وغيرها، كما قال: " والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة " (2) والبحر، والسفن التي خلقها لهم وأجراها بالرياح فوق الماء ليبلغوا بذلك حوائجهم " ورزقناهم من الطيبات " يعني من الثمار والفواكه وطيبات الأشياء، وملاذها التي خص بها بني آدم ولم يشرك شيئا من الحيوان فيها من فنون الملاذ. وقيل: من تفضيل بني آدم ان يتناول الطعام بيديه دون غيره، لان غيره يتناوله بفيه، وانه ينتصب، وما عداه على اربع أو على وجهه. وقوله: " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " وليس المراد بذلك تفضيلهم بالثواب، لان الثواب لا يتفضل به ابتداء، وإنما فضلهم ابتداء بان خلق لهم من فنون النعم وضروب الملاذ ما لم يجعله لشئ من الحيوان، وإنما فعل ذلك تفضلا منه تعالى، ولما في ذلك من اللطف للعاقل، والصلاح الذي ينتظم ويتم بهذا التأويل، واستدل جماعته بقوله " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا " على تفضيل الملائكة على الأنبياء، قال لان قوله " على كثير ممن خلقنا " يدل على أن ههنا من لم يفضلهم عليهم، وليس الا الملائكة، لان ابن آدم أفضل من كل حيوان سوى الملائكة بلا خلاف. وهذا باطل بما قلناه من أن المراد بذلك تفضيلهم بالنعم الدنياوية، والالطاف، وليس المراد بذلك الثواب بدلالة ابتدائهم بهذا التفضيل. والثواب لا يجوز الابتداء به. وقوله " يوم ندعو كل أناس بإمامهم " قال الزجاج: يتعلق بقوله " يعيدكم.. يوم ندعو " وقيل: تقديره اذكر يوم. وقيل إنه يتعلق بقوله " وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا.. يوم ندعو "، لان ما فعله بهم من الألطاف في الدنيا، لان يطيعوا ويفعلوا من الافعال ما يدعون به يوم القيامة. واختلفوا في الامام الذي يدعون به يوم القيامة، فقال مجاهد وقتادة: إمامه نبيه. وقال ابن عباس: إمامه كتاب علمه. وروي عنه أيضا أن إمامهم كتابهم الذي انزل الله إليهم فيه الحلال والحرام والفرائض والاحكام. وقال البلخي: بما كانوا يعبدونه، ويجعلونه إماما لهم. وقال أبو عبيد: بما كانوا يأتمون به في الدنيا. وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله (ع). وقوله " فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم.. " الآية، جعل الله تعالى إعطاء الكتاب باليمين من علامة الرضا والخلاص، وأن من أعطي كتابه باليمين تمكن من قراءته وسهل له ذلك، وكان فحواه أن من أعطي كتابه بشماله أو وراء ظهره، فإنه لا يقدر على قراءة كتابه، ولا يتأتي له، بل يتلجلج فيه، لما يراه من المعاصي الموبقات. وقوله " ولا يظلمون فتيلا " معناه لا يبخص أحد حقه، ولا يظلم شيئا، سواء كان مستحقا للثواب أو العقاب، فإن المستحق للثواب لا يبخس منه شيئا والمستحق للعقاب لا يفعل به أكثر من استحقاقه، فيكون ظلما له. (والفتيل) هو المفتول الذي في شق النواة - في قول قتادة - وقيل الفتيل في بطن النواة، والنقير في ظهرها، والقطمير قشر النواة، ذكره الحسن. وقوله " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " قرأ أهل العراق إلا حفصا والأعشى " ومن كان في هذه أعمى " بالإمالة. الباقون بالتفخيم وقرأ حمزة والكسائي إلا نصيرا، وخلفا، وأبا بكر إلا الأعشى والبرجمي " فهو في الآخرة أعمى " بالإمالة: الباقون بالتفخيم. وقيل في معنى الآية قولان:
أحدهما: قال ابن عباس، ومجاهد وقتادة، وابن زيد: من كان في أمر هذه الدنيا، وهي شاهدة له من تدبيرها وتوثقها وتقلب النعم فيها أعمى عن اعتماد (3) الصواب الذي هو مقتضاها، فهو في الآخرة التي هي غائبة (4) عنه " أعمى وأضل سبيلا " وقال قوم: من كان في هذه الدنيا أعمى عن طريق الحق، فهو في الآخرة أعمى عن الرشد المؤدي إلى طريق الجنة. وقال أبو علي: فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة. ومن فخم في الموضعين، فلان الياء فيهما قد صارت ألفا لانفتاح ما قبلها. والأصل فمن كان في هذه أعمى، فهو في الآخرة أعمى، ومن كان فيما وضعناه من نعيم الدنيا أعمى، فهو في نعيم الآخرة أعمى. واما تفريق أبي عمرو بين اللفظين فلاختلاف المعنى، فقال ومن كان في هذه أعمى ممالا، فهو في الآخرة أعمى بالفتح اي أشد عما، فجعل الأول صفة بمنزلة أحمر وأصفر.
والثاني: بمنزلة أفعل منك، كقوله " وأضل سبيلا " اي أعمى قلبا. والعمى في العين لا يتعجب منه بلفظة (أفعل)، ولا يقال ما أعماه، بل يقال ما أشد عماه، وفي القلب ما أعماه بغير أشد، لان عما القلب حمق، كما قال الشاعر لمرور ما أحمره وأبيضه، فقال:
أما الملوك فأنت اليوم الامهم * لؤما وأبيضهم سربال طباخ (5)
وقال بعضهم: لا وجه لتفريق أبي عمرو، لان الثاني، وإن كان بمعنى (أفعل منك " فلا يمنع من الإمالة، كما لم يمنع بالذي هو أدنى، قال ابن خالويه أبو عبد الله إنما أراد أبو عمرو ان يفرق بينهما لما اختلف معناهما، واجتمعا في آية واحده، كما قرأ " ويوم القيامة يردون " يعني الكفار، ثم قال في آخر؟" عما تعملون " (6) اي أنتم وهم، ولو وقع مفردا، لأجاز الإمالة والتفخيم فيهما، قال أبو علي: ومن أمال الجميع كان حسنا، لأنه ينحو نحو الياء بالألف ليعلم انها منقلبة إلى الياء وان كانت فاصلة أو مشبهة للفاصلة، فالإمالة حسنة فيها، لان الفاصلة موضع وقف، والألف تخفى في الوقف، فأما إذا أمالها، نحا بها نحو الكسرة وليكون أظهر لها وأبين.
1- سورة 16 النحل آية 8.
2- في المخطوطة (اعتقاد).
3- أثبتنا ما في المخطوطة، وكان في المطبوعة (غايته).
4- تفسير القرطبي 10 / 299 وتفسير الشوكاني 3 / 238.
5- سورة البقرة آية 85.
6- سورة البقرة آية 66.