الآيات 64-66
قوله تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً، رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾
القراءة:
قرأ حفص وحده " ورجلك " بكسر الجيم. الباقون بتسكينها. من سكن أراد جمع (راجل) مثل صاحب وصحب، وراكب وركب. ومن كسر أراد قولهم: رجل يرجل، فهو راجل. قوله: " واستفزز.. واجلب " صورته صورة الامر والمراد به التهديد، وجرى مجرى قوله " اعملوا ما شئتم " (1) وكما يقال للانسان: اجهد جهدك، فسترى ما ينزل بك، وإنما جاء التهديد بصيغة الامر، لأنه بمنزلة من امر بإهانة نفسه، لان هذا الذي يعمله هوان له وهو مأمور به. ومعنى (استفزز) استزل، يقال: استفزه واستزله بمعنى واحد، وتفزز الثوب إذ تمزق، وفززه تفززا، وأصله القطع، فمعنى استفزه استزله بقطعه عن الصواب " من استطعت منهم " فالاستطاعة قوة تنطاع بها الجوارح للفعل، ومنه الطوع والطاعة، وهو الانقياد للفعل. وقيل في الصوت الذي يستفزهم به قولان:
أحدهما: قال مجاهد: صوت الغناء واللهو.
الثاني: قال ابن عباس: هو كل صوت يدعا به إلى معصية الله. وقيل: كل صوت دعي به إلى الفساد، فهو من صوت الشيطان. وقال: " واجلب عليك بخيلك " فالاجتلاب السوق بجلبة من السائق. وفي المثل (إذا لم تغلب فاجلب) يقال: جلب يجلب جلبا واجلب إجلابا، واجتلب اجتلابا، واستجلب استجلابا، وجلب تجليبا مثل صوت، واصل الجلبة شدة الصوت، وبه يقع السوق. وقوله: " بخيلك ورجلك " قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: كل راكب أو ماش في معصية الله من الإنس والجن، فهو من خيل إبليس ورجله، والرجل جمع راجل مثل تجر وتاجر، وركب وراكب. وقوله: " وشاركهم في الأموال والأولاد " فمشاركته إياهم في الأموال كسبها من وجوه محظورة أو إنفاقها في وجوه محظورة، كما فعلوا في السائبة والبحيرة والحام، والاهلال به لغير الله، وغير ذلك. ومشاركته في الأولاد، قال مجاهد والضحاك: فهم أولاد الزنا. وقال ابن عباس: الموؤودة. وقيل: من هودوا ونصروا، في قول الحسن وقتادة. وقال ابن عباس في رواية: هو تسميتهم عبد الحارث، وعبد شمس، وما أشبه ذلك. وقيل: ذلك واحد من هذه الوجوه، وهو أعم. وقوله " وعدهم " اي منهم البقاء وطول الامل. ثم قال تعالى " وما يعدهم الشيطان " أي ليس يعدهم الشيطان " الا غرورا " ونصب على أنه مفعول له (اي ليس يعدهم الشيطان الا لأجل الغرور) (2). ثم قال تعالى " ان عبادي " يعني الذين يطيعوني ويقرون بتوحيدي ويصدقون أنبيائي، ويعملون بما أوجبه عليهم، وينتهون عن معاصي " ليس لك " يا إبليس " عليهم " حجة ولا سلطان. قال الجبائي: معناه ان عبادي ليس لك عليهم قدرة، على ضر ونفع أكثر من الوسوسة، والدعاء إلى الفساد، فأما على كفر أو ضرر، فلا، لأنه خلق ضعيف متخلخل، لا يقدر على الاضرار بغيره. ثم قال " وكفى بربك " اي حسب ربك " وكيلا " اي حافظا، ومن يسند الامر إليه ويستعان به في الأمور. ثم خاطب تعالى خلقه فقال: ربكم الذي خلقكم " هو الذي " يزجي لكم الفلك في البحر " قال ابن عباس: معناه يجريها، وبه قال قتادة، وابن زيد يقال: أزجى يزجي ازجاء إذا ساق الشئ حالا بعد حال " لتبتغوا من فضله " اي لتطلبوا فضل الله في ركوب البحر من الأرياح وغيرها " انه كان بكم رحيما " اي منعما عليكم راحم لكم، يسهل لكم طرق ما تنتفعون بسلوكه دينا ودنيا.
1- ما بين القوسين ساقط من المطبوعة.
2- قائله الفرزدق ديوانه (دار بيروت) 1: 213 وتفسير الطبري 15 / 79 وتفسير القرطبي 10 / 292 والشوكاني 3 / 235 وروح المعاني 15 / 116.