الآيات 61-63
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا، قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً، قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا﴾
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم واذكر " إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الا إبليس " وقد بينا أن امر الله تعالى بأن اسجدوا لآدم تعظيم لآدم وتفضيله عليهم وإن كانت القربى (1) بذلك السجود إلى الله تعالى، وفي الناس من قال: انه كان بمنزلة القبلة لهم وإن كان فيه تشريف له. ثم اخبر تعالى ان الملائكة امتثلت امر الله فسجدت له " إلا إبليس " فقد قلنا إن اخبارنا تدل على أن إبليس كان من جملة الملائكة، وإنما كفر بامتناعه من السجود، ومن قال إن الملائكة معصومون فان إبليس لم يكن من جملة الملائكة والاستثناء في الآية استثناء منقطع و (إلا) بمعنى (لكن) وإنما ضمه إلى الملائكة من حيث جمعهم في الامر، والتكليف بالسجود، فلذلك استثناه من جملتهم. ثم اخبر تعالى عن إبليس أنه قال " أأسجد لمن خلقت طينا " على وجه الانكار لذلك، وأن من خلق من نار أشرف وأعظم، من الذي خلق من طين، وآدم إذا كان مخلوقا من طين كيف يسجد له من هو مخلوق من نار، وهو إبليس، وذلك يدل على أن إبليس فهم من ذلك الامر تفضيله عليه، ولو كان بمنزلة القبلة لما كان لامتناعه عليه وجه، ولا لدخول الشبهة بذلك مجال. و " طينا " نصب على التمييز، ويجوز أن يكون نصبا على الحال. والمعنى إنك أنشأته في حال كونه من طين. ووجه الشبهة الداخلة على إبليس ان الفروع ترجع إلى الأصول فتكون على قدرها في التكبر أو التصغر، فلما اعتقد أن النار أكرم أصلا من الطين جاء منه انه أكرم ممن خلق من طين، وذهب عليه بجهله أن الجواهر كلها متماثلة، وان الله تعالى يصرفها بالاعراض كيف شاء مع كرم جوهر الطين وكثرة ما فيه من المنافع التي تقارب منافع النار أو توفى عليها. وإنما جاز ان يأمره بالسجود له، ولم يجز ان يأمره بالعبادة له، لان السجود يترتب في التعظيم بحسب ما يراد به، وليس كذلك العبادة التي هي خضوع بالقلب ليس فوقه خضوع، لأنه يترتب في التعظيم بحسب نيته، يبين ذلك أنه لو سجد ساهيا لم يكن له منزلة في التعظيم على قياس غيره من افعال الجوارح. قال الرماني: الفرق بين السجود لآدم والسجود إلى الكعبة، ان السجود لآدم تعظيم له باحسانه، وهذا يقارب قولنا في أنه قصد بذلك تفضيله بأن امره بالسجود له. ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن المعنى ما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا محققين ظن إبليس فيهم مخالفين موجب نعمة ربهم على أمتهم وعليهم ثم حكى تعالى عن إبليس أنه قال " أرأيتك هذا الذي كرمت علي " ومعناه اخبرني عن هذا الذي كرمته علي لم كرمته علي؟وقد خلقتني من نار وخلقته من طين! فحذف لدلالة الكلام عليه. وإنما قال " أأسجد " بلا حرف عطف، لأنه على قوله " أأسجد " لمن خلقت طينا " والكاف في قوله " أرأيتك " لا موضع لها من الاعراب، لأنها ذكرت في المخاطبة توكيدا، و (هذا نصب ب? (أرأيتك)، والجواب محذوف. والمعنى ما قدمناه. وقوله " لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا "، ومعنى لأحتنكن لأقطعنهم إلى المعاصي، يقال منه: احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم أو غير ذلك، قال الشاعر:
أشكو إليك سنة قد أجحفت * جهدا إلى جهدبنا وأضعفت
واحتنكت أموالنا وجلفت (2)
وقال ابن عباس: معنى " لأحتنكن " لأستولين، وقال مجاهد: لأحتوين، وقال ابن زيد: لأضلنهم، وقال قوم: لأستأصلن ذريته بالاغواء، وقال آخرون: لأقودنهم إلى المعاصي، كما تقاد. الدابة بحنكها إذا شد فيها حبل تجر به. وقوله " الا قليلا " استثناء من إبليس القليل من ذرية آدم الذين لا يتبعونه ولا يقبلون منه. فقال الله تعالى عند ذلك " اذهب " يا إبليس " فمن تبعك " من ذرية آدم واقتفى أثرك وقبل منك " فان جهنم جزاؤكم جزاء موفورا " أي كاملا، يقال منه: وفرته أفره وفرا، فهو موفور، وقال زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه * يفره ومن لا يتق الشتم يشتم (3)
ووفرته توفيرا، ويقال: موفورا بمعنى وافر، في قول مجاهد، كأنه ذو وفر، كقولهم: لابن أي ذو لبن، وقد دل على أنهم لا ينقصون من عقابهم الذين يستحقونه شيئا، وفي ذلك استخفاف به وهوان له. وإنما ظن إبليس هذا الظن الصادق، بأنه يغوي أكثر الخلق، لان الله تعالى كان قد أخبر الملائكة أن سيجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، فكان قد علم بذلك. وقيل: إنما قال ذلك، لأنه وسوس إلى آدم فلم يجدله عزما، فقال: بنو هذا مثله في ضعف العزيمة، ذكره الحسن. وهذا الوجه لا يصح على أصلنا، لان عندنا ان آدم لم يفعل قبيحا، ولا ترك واجبا، فلو ظن إبليس ان أولاده مثله، لانتقض غرضه، ولم يخبر بما قال. و (لئن) حرف شرط، ولا يليه الا الماضي، والشرط لا يكون الا بالمستقبل والعلة في ذلك ان اللام في (لئن) تأكيد يرتفع الفعل بعده و (ان) حرف شرط ينجزم الفعل بعده، فلما جمعوا بينهما، لم يجز ان يجزم فعل واحد ويرفع، فغير المستقبل إلى الماضي، لان الماضي لا يبين فيه الاعراب، ذكر هذه العلة ابن خالويه.
1- تفسير الطبري 15: 75.
2- ديوانه (دار بيروت) 87 وتفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3 / 233 وتفسير روح المعاني 15 / 110.
3- سورة 41 حم السجدة (فصلت) آية 40.