الآيات 1-5

مدينة بلا خلاف، وهي إثنا وعشرون آية في الكوفي والبصري والمدني الأول وإحدى وعشرون في المدني الأخير.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ، وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾

القراءة:

قرأ المفضل عن عاصم " ما هن أمهاتهم " على الرفع على لغة بني تميم. الباقون بنصب " أمهاتهم " على لغة أهل الحجاز، وهي لغة القرآن، كقوله " ما هذا بشرا " (1) وقرأ عاصم " يظاهرون " بضم الياء بألف. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " يظهرون " بغير الف مشددة الظاء والهاء. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي " يظاهرون " بتشديد الظاء والف، وفتح الياء. وقال أبو علي النحوي: ظاهر من امرأته وظهر مثل ضاعف وضعف وتدخل التاء على كل واحد منهما، فيصير تظاهر وتظهر، ويدخل حرف المضارعة، فيصير تتظاهر، ويتظهر. ثم يدغم التاء في الظاء لمقاربتهما، فيصير يظاهرون ويظهرون - بفتح الياء - التي هي للمضارعة، لأنها للمطاوعة، كما تفتحها في (يتدحرج) الذي هو مطاوع (دحرجته، فتدحرج) واختار عاصم أن المظاهرة من المضارعة، لان المفاعلة لا يكون إلا من نفسين. والظهار يكون بين الرجل وامرأته. ومن قرأ (يظاهرون) فأصله يتظاهرون فأدغم التاء في الظاء. والظهار قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، وكان أهل الجاهلية إذا قال الرجل منهم هذا لامرأته بانت منه وطلقت. وفى الشرع لا تبين المرأة إلا أنه لا يجوز له وطؤها إلا بعد ان يكفر. وعندنا ان شروط الظهار هي شروط الطلاق سواء من كان المرأة طاهرا طهرا لم يقربها فيه بجماع، ويحضره شاهدين ويقصد التحريم فان اختل شئ من ذلك لم يقع به ظهار. ويقال فيه ظاهر فلان من امرأته ظهارا ومظاهرة وإظهارا، فلان ظاهر وتظاهر تظاهرا إلا أنه أدغم واظهر إظهارا. وأصله تظهر تظهرا إلا أنه دغمت التاء في الظاء. وقيل: إن هذه الآية نزلت في خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس ابن الصامت - في قول قتادة - وكان مجادلتها إياه مراجعتها في أمر زوجها. وقد كان ظاهر منها، وهي تقول: كبرت سني ودق عظمي، وان أوسا تزوجني وانا شابة، فلما علت سني يريد أن يطلقني. ورسول الله صلى الله عليه وآله يقول بنت منه - على ما رواه أبو العالية - وفي رواية غيره أنه قال لها: ليس عندي في هذا شئ، فنزلت الآية. وقال ابن عباس: نزلت الآية في أوس بن الصامت. وكانت تحته بنت عم له، فقال لها: أنت علي كظهر أمي، فهو أول من ظاهر في الاسلام. وقيل كان يقال للمرأة خولة بنت خويلد. وكان الرجل في الجاهلية إذا قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي حرمت عليه، فأنزل الله تعالى في قصة الظهار آيات. ولا خلاف أن الحكم عام في جميع من يظاهر، وإن نزلت الآية على سبب خاص. فقال الله تعالى لنبيه " لقد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها " فالجدال والمجادلة هي المخاصمة. وقد يقال: للمراجعة والمقابلة للمعنى بما يخالفه مجادلة. واصل الجدال الفتل. ومن قابل المعنى بخلافه طلبا للفائدة فليس بمجادل. فمجادلة المرأة لرسول الله كان مراجعتها إياه في أمر زوجها، وذكرها أن كبرت سني وذق عظمي، والنبي صلى الله عليه وآله يقول بنت منه - على ما رواه ابن العالية - لأنه لم يكن نزل عليه في ذلك وحي ولا حكم. وقوله " وتشتكى إلى الله " أي تظهر ما بها من المكروه، تقول: اللهم إنك تعلم حالي فارحمني، فالاشتكاء إظهار ما بالانسان من المكروه. والشكاية إظهار ما يصنعه به غيره من المكروه. وقوله " والله يسمع تحاور كما " أي مراجعة بعضكما لبعض. والتحاور التراجع وهو المحاورة، تقول: تحاورا تحاورا وحاور محاورة أي راجعه في الكلام، قال عنترة:

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى * ولكان لو علم الكلام مكلمي

و " إن الله سميع بصير " أي على صفة يصح معها ان يسمع المسموعات إذا وجدت، ويبصر المبصرات إذا وجدت. ثم قال " الذين يظاهرون منكم من نسائهم " أي الذين يقولون لنسائهم: أنت علي كظهر أمي، ومعناه إن ظهرك علي حرام كظهر أمي، فقال الله تعالى " ما هن أمهاتهم " أي ليست أزواجهم أمهاتهم على الحقيقة " إن أمهاتهم " أي وليست أمهاتهم في الحقيقة " إلا اللائي ولدنهم " من الام وجداته. ثم اخبر " إنهم ليقولون " أي ان القائل لهذا يقول قولا " منكرا من القول " قبيحا " وزورا " أي كذبا، لأنه إذا جعل ظهرها كظهر أمه وليست كذلك كان كاذبا في قوله. ثم قال تعالى " وإن الله لعفو غفور " أي رحيم بهم منعم عليهم متجاوز عن ذنبهم. وفى ذلك دلالة على أن الله رحمها وغيرها من النساء لرغبتها في زوجها بالتوسعة من جهة الكفارة التي تحل بها. ثم بين تعالى ما يلزمه من الحكم، فقال " والذين يظاهرون من نسائهم " يعني الذين يقولون هذا القول الذي حكيناه " ثم يعودون لما قالوا " واختلفوا في معنى العود، فقال قتادة العود هو العزم على وطئها. وقال قوم: العود الامساك عزم أو لم يعزم وقال الشافعي: هو أن يمسكها بالعقد، ولا يتبع الظهار بطلاق. وحكى الطبري عن قوم انهم قالوا: فيه تقديم وتأخير وتقديره: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة من قبل ان يتماسا فمن لم يجد فصيام شهرين فمن لم يستطع فاطعام ستين مسكينا ثم يعودون لما قالوا. وقال قوم: معناه ثم يعودون لنقض ما قالوا وارتفاع حكمه. وقال قوم: لا تجب عليه الكفارة حتى يعاود القول ثانية. وهو خلاف أكثر أهل العلم. والذي هو مذهبنا أن العود المراد به إرادة الوطئ أو نقض القول الذي قاله، فإنه لا يجوز له الوطئ إلا بعد الكفارة ولا يبطل حكم القول الأول إلا بعد ان يكفر. وقال الفراء: يحتمل أن يكون المراد ثم يعودون إلى ما قالوا، وفيما قالوا، وفي نقض ما قالوا، أي يرجعون عما قالوا، ويجوز في العربية أن تقول: إن عاد لما فعل، تريد ان فعله مرة أخرى، ويجوز إن عاد لما فعل أي نقض ما فعل، كما تقول: حلف ان يضربك بمعنى حلف ألا يضربك، وحلف ليضربنك. وقوله " فتحرير رقبة من قبل ان يتماسا " بيان لكيفية الكفارة، فان أول ما يلزمه من الكفارة عتق رقبة فالتحرير هو ان يجعل الرقبة المملوكة حرة بالعتق بأن يقول المالك انه حر. والرقبة ينبغي أن تكون مؤمنة سواء كانت ذكرا أو أنثى صغيرة أو كبيرة إذا كانت صحيحة الأعضاء. فان الاجماع واقع على أنه يقع الاجزاء بها، وقال الحسن وكثير من الفقهاء: إن كانت كافرة أجزأت. وفيه خلاف وتفاصيل. ذكرناه في كتب الفقه. وتحرير الرقبة واجب قبل المجامعة لظاهر قوله " من قبل ان يتماسا " أي من قبل ان يجامعها فيتماسا. وهو قول ابن عباس، فكان الحسن لا يرى بأسا ان يغشى المظاهر دون الفرج. وفى رواية أخرى عنه أنه يكره للمظاهر أن يقبل. والذي يقتضيه الظاهر ألا يقربها بجماع على حال ولا بمماسة شهوة وقوله " ذلكم توعظون به " ان تظاهروا ثم قال " والله بما تعملون خبير " أي عالم بما تفعلونه من خير وشر، فيجازيكم بحسبه. ثم قال " فمن لم يجد " يعني الرقبة وعجز عنها " فيصام شهرين متتابعين من قبل ان يتماسا " والتتابع عند أكثر العلماء ان يوالي بين أيام الشهرين الهلاليين أو يصوم ستين يوما. وعندنا انه إذا صام شهرا ومن الآخر ولو يوما، فقد تابع، فان فرق فيما بعد جاز. وعند قوم: ان يصوم شهرا ونصف شهر لا يفطر فيما بينهما فان افطر لا لعذر استأنف. وان افطر لعذر من مرض اختلفوا، فمنهم من قال يستأنف من عذر وغير عذر. وبه قال إبراهيم النخعي ورواه جابر عن أبي جعفر عليه السلام وقال قوم: يبني، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وعطاء والشعبي. واجمعوا على أن المرأة إذا أفطرت للحيض في الشهرين المتتابعين في كفارة قتل الخطأ أو فطر يوم انها تبني فقاسوا عليه الظهار. وروى أصحابنا انه إذا صام شهرا ومن الثاني بعضه ولو يوما ثم افطر لغير عذر، فقد أخطأ إلا أنه يبني على ما قدمناه. وإن افطر قبل ذلك استأنف. ومتى بدأ بالصوم وصام بعضه ثم وجد العتق لا يلزمه العتق وإن رجع كان أفضل. وقال قوم: يلزمه الرجوع إلى العتق. ومتى جامع في ليالي الصوم وجب عليه الاستئناف وبطل حكم التتابع، لأنه خلاف الظاهر. ومتى جامع قبل الكفارة لزمته كفارة ثانية عند أصحابنا، وكلما وطأ لزمته كفارة بعدد الوطئ. وقوله " فمن لم يستطع " يعني من لم يقدر على الصوم " فاطعام ستين مسكينا " يعني - عندنا - لكل مسكين نصف صاع، فإن لم يقدر أعطاه مدا. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله انه اعطى المظاهر نصف وسق ثلاثين صاعا. وقال أطعم ستين مسكينا وراجعها وذلك أنه كان فقيرا عاجزا عن جميع الكفارات. وقال الحسن: اعانه رسول الله صلى الله عليه وآله بخمسة عشر صاعا. والعدد مراعى، فإن لم يجد العدد كرر على الموجودين تمام الستين. وإن جامعها قبل ان يتم الاطعام، فظاهر المذهب يقتضي انه يلزمه كفارة أخرى، لأنه وطأ قبل الكفارة. وقال قوم: لا يلزمه. وقال آخرون: يستأنف الكفارة وقوله " ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله " معناه إنا شرعنا لكم ما ذكرناه في حكم الظهار لما علمناه من مصلحتكم لتؤمنوا بالله ورسوله، فتصدقوهما وتقروا بتوحيد الله، وبنبوة نبيه. ثم قال " وتلك حدود الله " يعني ما ذكرناه من حكم الظهار. ثم قال " وللكافرين " أي للجاحدين لصحة ما قلناه " عذاب اليم " ومتى نوى بلفظ الظهار الطلاق لم يقع به طلاق. وفيه خلاف بين الفقهاء، والاطعام لا يجوز إلا للمسلمين دون أهل الذمة. وفيه خلاف. ومسائل الظهار وفروعها ذكرناها في كتب الفقه. ثم قال " إن الذين يحادون الله ورسوله " والمحادة المخالفة في الحدود أي من خالف الله ورسوله فيما ذكراه من الحدود " كبتوا " أي اخذوا - في قول قتادة - وقال غيره: اذلوا. وقال الفراء: معناه اغيظوا واحزنوا يوم الخندق " كما كبت الذين من قبلهم " يعني من قاتل الأنبياء من قبلهم. ثم قال تعالى " وقد أنزلنا آيات بينات " اي حجج واضحات من القرآن وما فيه من الأدلة. ثم قال " وللكافرين " أي للجاحدين لما أنزلناه من القرآن والآيات " عذاب مهين " أي يهينهم ويخزيهم.


1- سورة 12 يوسف آية 31.