الآيات 43-45

قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا، وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا﴾

القراءة:

قرأ أهل العراق إلا أبا بكر " تسبح " بالتاء. وقرأ ابن كثير وحفص " عما يقولون " بالياء. وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر " عما تقولون " بالتاء. قال أبو علي: فمن قرأ " عما يقولون " بالياء فالمعنى على ما يقول المشركون. ومن قرأ بالتاء يحتمل شيئين:

أحدهما: أن يعطف على قوله " كما تقولون " كما عطف قوله " يحشرون " على " ستغلبون ".

الثاني: أن يكون نزه نفسه عن دعواهم، فقال " سبحانه عما يقولون ". وقرأ عاصم ونافع وابن عامر وابن عباس: بالياء عطف على ما تقدم. وقوله " عما يقولون " على أنه نزه نفسه عن قولهم أو على معنى قل لهم سبحانه عما يقولون فأما قوله " يسبح " بالياء والتاء، فحسنان. وقد بينا في غير موضع معناه، ويقوي التأنيث قراءة عبد الله فسبحت له السماوات. لما اخبر الله تعالى أنه " لو كان معه آلهة " سواه على ما يدعيه المشركون " ليبتغوا إلى ذي العرش سبيلا " ونزه نفسه عن ذلك، فقال " سبحانه " ويحتمل أن يكون أمر نبيه أن يقول " سبحانه " أي تنزيها له تعالى " عما يقولون " أي عن قولهم، ويجوز أن يكون المراد عن الذي يقولونه من الأقوال الشنيعة فيه بأن معه آلهة " علوا كبيرا " وإنما لم يقل تعاليا، لأنه وضع مصدرا مكان مصدر نحو " وتبتل إليه تبتيلا " (1) ومعنى " تعالى " اي صفاته في أعلى المراتب، فإنه لا مساوي له فيها، لأنه قادر، ولا أحد أقدر منه، وعالم لا أحد أعلم منه، ولا مساوي له في ذلك. ثم أخبر أنه " يسبح له " اي ينزهه عن ذلك " السماوات السبع والأرض ومن فيهن " يعني في السماوات والأرض من العقلاء، وتنزيه السماوات والأرض هو ما فيهما من الدلالة على توحيده وعدله، وأنه لا يشركه في الإلهية سواه. وجرى ذلك مجرى التسبيح باللفظ، وتسبيح العقلاء يحتمل ذلك: تسبيحهم باللفظ، غير أن ذلك يختص بالموحدين منهم دون المشركين. وقوله " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " اي ليس شئ من الموجودات إلا يسبح بحمد الله، يعني كل شئ يسبح بحمده، من جهة خلقته، أو معنى صفته إذ كل موجود سوى القديم تعالى حادث، يدعو إلى تعظيمه لحاجته إلى صانع غير مصنوع، صنعه أو صنع من صنعه، فهو يدعو إلى تثبيت قديم غني بنفسه عن كل شئ سواه، لا يجوز عليه ما يجوز على المحدثات، وما عداه الحادث يدل على تعظيمه بمعنى حدثه من معدوم لا يصح الا به، لدخوله في مقدوره أو مقدور مقدوره ومما سبحه من يسبح بحمده من جهته، معنى صفة في قوله، فهو على العموم في كل شئ. وقال بعضهم: سل الأرض من شق أنهارك؟وغرس أشجارك؟وجنى ثمارك؟فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبار. وقال الحسن: المعنى وإن من شئ من الاحياء إلا يسبح بحمده. وقال علي ابن إبراهيم وغيره من أهل العلم: كل شئ على العموم يسبح بحمده حتى صرير الباب. وقوله " ولكن لا تفقهون تسبيحهم " اي لستم تفقهون تسبيح هذه الأشياء، من حيث لم تنظروا فيها، فتعلموا كيفية دلالتها على توحيده. وقوله " إنه " كان حليما غفورا " اي كن حليما حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على كفركم، وأمهلكم إلى يوم القيامة، وستره عليكم، لأنه ستار على عباده، غفور لهم إذ تابوا وأنابوا إليه. وقوله " وإذا قرأت القرآن " خطاب لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم انه متى قرأ القرآن " جعلنا بينك " يا محمد " وبين " المشركين " حجابا مستورا " اي كأن بينك وبينهم حجابا من أن يدركوا ما فيه من الحكمة وينتفعوا به. وقيل: " مستورا " عن أبصار الناس. وقيل " مستورا " - ههنا - بمعنى ساترا عن إدراكه، كما يقال: مشؤم عليهم أو ميمون في موضع شائم ويامن، لأنه من شؤمهم ويمنهم. والأول أظهر وقيل قوله " وجعلنا بينك " وبينهم " حجابا مستورا " نزل في قوم كانوا يأذونه باللسان إذا تلا القرآن، فحال الله بينهم وبينه حتى لا يؤذوه. والأول - قول قتادة: والثاني - قول أبو علي، والزجاج. وقال الحسن: معناه إن منزلتهم فيما أعرضوا عنه منزلة من بينك وبينه حجاب.


1- ديوانه 1 / 80 وتفسير القرطبي 10 / 272 ومجاز القرآن 1 / 381 وتفسير الطبري 15 / 63 واللسان (سحر) وروح المعاني 15: 90 وقد مر في 1: 372.