الآيات 23-24

قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾

القراءة:

قرا حمزة والكسائي وخلف " يبلغان " بألف وكسر النون على التثنية. الباقون يبلغن على الوحدة. وقرأ ابن كثير، وابن عباس، ويعقوب " أف " بفتح الفاء من غير تنوين. وقرأ أهل المدينة وحفص بكسر الفاء مع التنوين. الباقون بكسر الفاء من غير تنوين، ومثله في الأحقاف. قال أبو علي الفارسي قوله " أحدهما " مرتفع بالفعل، وقوله " أو كلاهما " معطوف عليه، والذكر الذي عاد من قوله " أحدهما " يغني عن إثبات علامة الضمير في يبلغن)، فلا وجه لمن قال: إ الوجه إثبات الألف، لتقدم ذكر الوالدين. ويجوز أن يكون رفع (أحدهما) على البدل من الضمير في (يبلغان) ويجوزان يرفعه بفعل مجدد على تقدير إما يبلغان عندك الكبر. يبلغ أحدهما أو كلاهما، ويكون رفعا على السؤال والتفسير كقوله " وأسروا النجوى الذين ظلموا " (1) ومن أثبت الألف، فعلى وجه التأكيد، ولو لم يذكر لم يخل بالكلام نحو قوله " أموات غير أحياء " (2) فقوله " غير أحياء " توكيد، لان قوله " أموات " دل عليه " قال: وقول ابن كثير (أف) يبني الفاء على الفتح، لأنه وإن كان في الأصل مصدرا من قولهم (أفه وتفه) يراد به نتنا وذفرا، لقد سمي الفعل به فبني، وهذا في البناء على الفتح كقولهم (سرعان ذا إهالة) لما سار اسما ل? (سرع)، فكذلك (أف) لما كان اسما (كره)، ومثله ريدا، في أنه سمي به الفعل، فبني ولم يلحق التنوين إلا أن هذا للامر والنهي، واف في الخبر. وقول نافع في البناء على الكسر مع التنوين، مثل (أف) في البناء على الفتح: إلا أنه بدخول التنوين دل على التنكير مثل إيه ومه وصه، ومثله قولهم صه، فبنوه على الكسر، وإن كان في الأصل مصدرا، كما كان (أف) في الأصل كذلك، ومن كسر ولم ينون جعله معرفة، فلم ينون، كما أن من قال: صه وضاف، فلم ينون أراد به المعرفة. وموضع (أف) على اختلاف القراءات موضع الجمل، مثل (رويد) في أن موضعه موضع الجمل وكذلك لو قلت: هذا فدا (3) قال أبو الحسن. وقول من قال (أف) أكثر وأجود ولو جاء (أفا لك) أحتمل أمرين:

أحدهما: أن يكون الذي صار اسما للفعل لحقه التنوين لعلامة التنكير.

والآخر: أن يكون نصبا معربا، وكذلك الضمير، فإن لم يكن معه لك كان ضعيفا، كما انك لا تقول ويل حتى تقرن به لك، فيكون في موضع الخبر و (أف) كلمة يكنى بها عن الكلام. القبيح وما يتأفف به، لان التف وسخ الظفر و (آلاف) وسخ الاذن. وقيل التف كل ما رفعت بيدك من حقير من الأرض، وقيل معنى آلاف الثوم، وقيل الشر، وقد جرى مجرى الأصوات، فزال عنه الاعراب مثل (صه) ومعناه اسكت، ومه ومعناه كف وهيهات هيهات اي بعيد بعيد، فإذا نونت أردت النكرة أي سكونا وقبحا، وإذا لم تنون أردت المعرفة. وإنما جاز تحريك الفاء بالضم والفتح والكسر، لان حركتها ليست حركة إعراب، وإنما هي حركة التقاء الساكنين فتفتح لخفة الفتحة، وتضم اتباعا للضم قبله، وقيل تضم تشبيها بقبل وبعد وتكسر على أصل حركة التقاء الساكنين. وفي (أف) سبع لغات: أف واف واف وافاوا في مما له، وزاد ابن الأنباري بسكون الفاء. وروي عن الرضا عن أبية عن جعفر بن محمد (ع) أنه قال (لو علم الله لفظ أوجز في ترك عقوق الوالدين من (أف) لاتى به). فان قيل هل أباح الله أن يقال لهما أف قبل أن يبلغا الكبر؟قلنا: لا، لان الله أوجب على الولد إطاعة الوالدين على كل حال. وحظر عليه أذاهما وإنما خص الكبر، لان وقت كبر الوالدين مما يضطر فيه الوالدان إلى الخدمة إذا كانا محتاجين عند الكبر، وفي المثل يقال فلان أبر من النسر، لان النسر إذا كبر ولم ينهض للطيران جاء الفرخ فزقه، كما كان أبواه يزقانه، ومثله قوله " ويكلم الناس في المهد وكهلا " (4) والوجه في قوله " وكهلا " مع أن الناس يكلمون كلهم حال الكهولة ان الله اخبر أن عيسى يكلم في المهد أعجوبة وأخبر أنه يعيش حتى يكتهل ويتكلم بعد الكهولة، ونحوه قوله " والامر يومئذ لله " (5) وإنما خص ذلك اليوم بأن الامر لله، لان في الدنيا مع أنه يملك، قد ملك أقواما جعلهم ملوكا وخلفاء، وذلك اليوم لا يملك سواه. معنى قوله " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " أمر، في قول ابن عباس والحسن وقتادة وابن زيد. فإن قيل: الامر لا يكون أمرا بألا يكون الشئ، لأنه يقتضي إرادة المأمور به، والإرادة لا تتعلق بألا يكون الشئ، وإنما تتعلق بحدوث الشئ. قلنا: المعنى انه كره ربكم عبادة غيره وأراد منكم عبادته على وجه الاخلاص وسمى ذلك أمرا ب? " أن لا تعبدوا إلا إياه " لان معناهما واحد. وقوله " وبالوالدين احسانا " العامل في الباء يحتمل شيئين:

أحدهما: وقضى بالوالدين إحسانا.

الثاني: وأوصى، وحذف لدلالة الكلام عليه، والمعنى متقارب، والعرب تقول: أمر به خيرا وأوصى به خيرا، وقال الشاعر:

عجبت من دهماء إذ تشكونا * ومن أبي دهماء إذ يوصينا

خيرا بها كأننا جافونا (6)

فأعمل " يوصينا " في الخير، كما أعمل في الاحسان. وقوله " إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما " معناه متى بلغ واحد منهما أوهما الكبر " فلا تقل لهما أف " أي لا تؤذهما بقليل ولا كثير " ولا تنهرهما " أي لا تزجرهما بإغلاظ وصياح يقال: نهره ينهره نهرا، وانتهره انتهارا إذا أغلظ له " وقل لهما قولا كريما " أي شريفا تكرمهما به. وتوقرهما " واخفض لهما جناح الذل " أي تواضع لهما واخضع لهما. وقرأ سعيد بن جبير " الذل " بكسر الذال والذل والذلة مصدر الذليل، والذل مصدر الذلول، مثل الدابة والأرض تقول: جمل ذلول، ودابة ذلول " وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا " أي ادع لهما بالمغفرة والرحمة كما ربياك في حال صغرك. وقال قوم الاستغفار لهما منسوخ إذا كانا مشركين بقوله " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " (7). وقال البلخي: الآية تختص بالمسلمين.


1- سورة 16 النحل اية 21.

2- في المخطوطة (هذا قفا) ونسخة أخرى (هذا فداء لك) وقد تركنا ما في المطبوع على حاله فلم نغير فيه شئ.

3- سورة 3 آل عمران اية 46.

4- سورة 82 الانفطار اية 19.

5- تفسير الطبري 15: 44 (الطبعة الأولى).

6- سورة 9 التوبة آية 114.

7- ديوانه (دار بيروت) 16 وتفسير الطبري 15: 48.