الآية 182-183

قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾

المعنى:

إن الذين كذبوا بآيات الله التي تضمنها القرآن والمعجزات الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وآله وكفروا بها سنستدرجهم من حيث لا يعلمون استدراجا لهم إلى الهلكة حتى يقعوا فيها بغتة من حيث لا يعلمون، كما قال تعالى " بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها " (1) وقال: " فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون " (2) فيقولوا هل نحن منظرون؟ويجوز أن يكون من عذاب الآخرة. فأما من قال من المجبرة: إن معنى الآية أن الله يستدرجهم إلى الكفر والضلال فباطل، لان الله تعالى لا يفعل ذلك لأنه قبيح ينافي الحكمة، ثم إن الآية بخلاف ذلك لأنه بين أن هؤلاء الذين يستدرجهم كفار بالله ورسوله وبآياته، وانه سيستدرجهم في المستقبل لان السين لا تدخل إلا على المستقبل فلا معنى لقوله " إن الذين كفروا سنستدرجهم " إلى الكفر، لأنهم كفار قبل ذلك، ولا يجب في الكافر أن يبقى حتى يواقع كفر آخر، لأنه يجوز أن يميته الله تعالى، فبان بذلك أن المراد أنه سيستدرجهم إلى العذاب والعقوبات من حيث لا يعلمون في مستقبل أمرهم بقوا أو لم يبقوا. على أن الاستدراج عقوبة من الله والله لا يعاقب أحدا على فعل نفسه كما لا يعاقبهم على طولهم أو قصرهم. ويحتمل أن يكون معنى الآية إنا نعاقبهم على استدراجهم للناس وإغوائهم إياهم ونعاقبهم على كيدهم، فجعل العقوبة على الاستدراج استدراجا، والعقوبة على الكيد كيدا، كما قال " سخر الله منهم " (3) وقال " الله يستهزئ بهم " (4) وقال يخادعون الله وهو خادعهم " (5) وقال " والله خير الماكرين " (6) وما أشبه ذلك. ويحتمل أن يكون المراد: إني سأفعل بهم ما يدرجون في الفسوق والضلال عنده ويكون ذلك إخبار عن بقائهم على الكفر عند إملائه لهم، فسمى ذلك استدراجا لأنهم عند البقاء كفروا وازدادوا كفرا ومعصية. وإن كان الله لم يرد منهم ذلك ولا بعثهم عليه، كما قال " أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " (7) كما يقول القائل: أبطر فلان فلانا بانعامه عليه. ولقد أبطرته النعمة وأكفرته السلامة، وإن كان المنعم لا يريد ذلك بل أراد ان يشكره عليها. ومعنى قوله " وأملي لهم " أؤخر هؤلاء الكفار في الدنيا وأبقيهم مع إصرارهم على الكفر ولا أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم، لأنهم لا يفوتوني ولا يعجزوني، ولا يجدون مهربا ولا ملجأ. وقوله تعالى " إن كيدي متين " معناه إن عذابي وسماه كيدا لنزوله بهم من حيث لا يشعرون. وقيل: إنه أراد أن جزاء كيدهم وسماه كيدا للازدواج على ما بينا نظائره. ومعنى " متين " شديد قوي قال الشاعر:

عدلن عدول اليأس والشيخ يبتلى * افانين من الهوب شد مماتني (8)

يعني شد أو شديدا باقيا لا ينقطع. والمتن أصله اللحم الغليظ الذي عن جانب الصلب وهما متنان. والكيد والمكر واحد، وهو الميل إلى الشر في خفى، كاد يكيد كيدا ومكيدة، وفلان يكيد بنفسه. وأصل الاستدراج اغترار المستدرج من حيث يرى أن المستدرج محسن إليه حتى يورطه مكروها. والاستدراج أن يأتيه من مأمنه من حيث لا يعلم. و (أملي) بمعنى أؤخر من الملي - ثقيلة الياء - يقال مضى عليه ملي من الدهر وملاؤ من الدهر - بفتح الميم وضمها وكسرها - أي قطعة منه. ووجه الحكمة في اخذهم من حيث لا يعلمون أنه لو اعلمهم وقت ما يأخذهم وعرفهم ذلك لامنوه قبل ذلك وكانوا مغريين بالقبيح قبله تعويلا على التوبة فيما بعد وذلك لا يجوز عليه تعالى. والاستدراج على ضربين:

أحدهما: أن يكون الرجل يعادي غيره فيطلب له المكايدة والختل من وجه يغتره به ويخدعه ويدس إليه من يوقعه في ورطة حتى يشفي صدره ولا يبالي كيف كان ذلك، فهذا سفيه غير حكيم.

والآخر: أن يحلم فيه ويتأنى ويترك العجلة في عقوبته التي يستحقها على معاصيه كيدا ومكرا واستدراجا. ألا ترى لوان إنسانا عادى غيره فجعل يشتمه ويعيبه وذاك يعرض عنه ولا يكافيه مع قدرته على مكافاته جاز أن يسمى كيدا واستدراجا ومكرا وحيلة، ولجاز ان يقال: فلان متين الكيد شديد الاستدراج، بعيد الغور محكم التدبير. وقيل في معنى " سنستدرجهم " سنأخذهم قليلا قليلا ولا نباغتهم، يقال: امتنع فلان على فلان واتى عليه حتى استدرجه اي خدعه حتى حمله على أن درج إليه درجانا أي اخذ في الحركة نحوه كما يدرج الصبي أول ما يمشي، ويقال: صبي دراج: ويقال: درجوا قرنا بعد قرن اي فنيوا قليلا قليلا.


1- سورة 21 الأنبياء آية 40.

2- سورة 26 الشعراء آية 202.

3- سورة 9 التوبة آية 80.

4- سورة 2 البقرة آية 15.

5- سورة 4 النساء آية 141.

6- سورة 3 آل عمران آية 54.

7- سورة 35 فاطر آية 47.

8- تفسير الطبري 13 / 288 والطبعة الثانية 9 / 136 وفيه اختلاف.