الآية 179

قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾

المعنى:

معنى " ذرأنا " خلقنا يقال: ذرأهم يذرأهم واللام في (لجهنم) لام العاقبة. والمعنى انه لما كانوا يصيرون إليها بسوء اختيارهم وقبح أعمالهم جاز أن يقال: إنه ذرأهم لها والذي يدل على أن ذلك جزاء على اعمالهم قوله " لهم قلوب لا يفقهون بها " وأخبر عن ضلالهم الذي يصيرون به إلى النار، وهو مثل قوله تعالى " إنما نملي لهم لازدادوا إثما " (1) ومثل قوله " ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك " (2) ومثل قوله عز وجل " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا " (3) وإنما التقطوه ليكون قرة عين كما قالت امرأة فرعون عند التقاطه " فرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا " (4) ومثله قول القائل: أعددت هذه الخشبة ليميل الحائط فأسنده بها وهو لا يريد ميل الحائط. ومثله قول الشاعر:

وللموت تغذو الوالدات سخالها * كما لخراب الدهر تبنى المساكن (5)

وقال الآخر:

أموالنا لذوي الميراث نجمعها * ودورنا لخراب الدهر نبنيها (6)

وقال الآخر:

وأم سماك فلا تجزعي * فللموت ما تلد الوالدة (7)

وقال آخر:

لدوا للموت وابنوا للخراب * فكلكم يصير إلى ذهاب (8)

وقوله " لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها " معناه انهم لما لم يفقهوا بقلوبهم ولم يسمعوا بآذانهم ولم يبصروا بعيونهم ما كانوا يؤمرون به ويدعون إليه سموا بكما عميا صما. ولما لم ينتفعوا بجوارحهم اشبهوا العمي البكم الصم، لان هؤلاء لا ينتفعون بجوارحهم فأشبهوهم في زوال الانتفاع بالجوارح وسموا بأسمائهم، ومثله قول مسكين الدارمي:

أعمي إذا ما جارتي خرجت * حتى يواري جارتي الخدر

ويصم عما كان بينهما * سمعي وما بي غيره وقر (9)

فجعل نفسه أصما وأعمى لما لم ينظر ولم يسمع وقال آخر:

وكلام سئ قد وقرت * أذني عنه وما بي من صمم

وقال آخر:

صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به * وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا (10)

وهذا كثير. ويجوز أن يكون قوله تعالى " ذرأنا لجهنم " معناه ميزنا. ويقال: ذرأت الطعام والشعير أي ميزت ذلك من التبن والمدر، فلما كان الله تعالى قد ميز أهل النار من أهل الجنة في الدنيا بالتسمية والحكم والشهادة جاز ان يقول ذرأناهم اي ميزنا هم. ثم وصفهم بصفة تخالف أوصاف أهل الجنة يعرفون بها فقال " لهم قلوب لا يفقهون بها " إلى آخرها. ويجوز أن يكون قوله " ذرأنا " بمعنى سنذرأ كما قال: " ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار " (11) بمعنى سينادون، فكأنه قال سيخلقهم خلقا ثانيا للنار بأعمالهم التي تقدمت منهم في الدنيا إذ كانوا استحقوا النار بتلك الاعمال. ولا يجوز أن يكون معنى الآية إن الله خلقهم لجهنم وأراد منهم ان يفعلوا المعاصي فيدخلوا بها النار، لان الله تعالى لا يريد القبيح، لان إرادة القبيح قبيحة، ولان مريد القبيح منقوص عند العقلاء تعالى الله عن صفة النقص، ولأنه قال " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " (12) فبين انه خلق الخلق للعبادة والطاعة وقال " وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع " (13) وقال " ولقد صرفناه بينهم ليذكروا " (14) وقال " ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " (15) وقال " إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله " (16) ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى، فكيف يقول بعد ذلك " ولقد ذرأنا لجهنم " وهل هذا إلا تناقض تنزه كلام الله عنه. وقوله " أولئك كالانعام " يعني هؤلاء الذين لا يتدبرون بآيات الله ولا يستدلون بها على وحدانيته وصدق رسله أشباه الانعام والبهائم التي لا تفقه ولا تعلم ثم قال " بل هم أضل " يعني من البهائم، لان في البهائم ما إذا زجرتها انزجرت وإذا أرشدتها إلى طريق اهتدت. وهؤلاء لعتوهم وكفرهم لا يهتدون إلى شئ من الخيرات مع ما ركب الله فيهم من العقول التي تدلهم على الرشاد وتصرفهم عن الضلال وليس ذلك في البهائم. ومع ذلك تهتدي إلى منافعها وتتحرز عن مضارها، والكافر لا يفعل ذلك. ثم قال " أولئك هم الغافلون " يعني هؤلاء هم الغافلون عن آياتي وحججي والاستدلال بها والاعتبار بتدبرها على ما تدل عليه من توحيده، لان البهائم التي هي مسخرة مصروفة لا اختيار لها.


1- سورة 3 آل عمران آية 178.

2- سورة 10 يونس آية 88.

3- سورة 28 القصص آية 8.

4- سورة 28 القصص آية 9.

5- قائله سابق البربري أو (البريدي) العقد الفريد 1 / 269.

6- انظر 3 / 60 من هذا الكتاب.

7- انظر 3 / 60 من هذا الكتاب.

8- انظر 3 / 60 من هذا الكتاب.

9- تفسير الطبري الطبعة الثانية 9 / 132. وروايته " الستر " بدل " الخدر " " وما بالسمع من وقر " بدل " وما بي غيره وقر " وقد مر البيتان في 1 / 90 وفي 2 / 113 من هذا الكتاب.

10- قائله قنعب بن أم صاحب اللسان والتاج (أذن) وفي مجاز القرآن 1 / 177 هكذا: إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا * وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا.

11- سورة 7 الأعراف آية 43.

12- سورة 51 الذاريات آية 56.

13- سورة 4 النساء آية 63.

14- سورة 25 الفرقان آية 50.

15- سورة 57 الحديد آية 25.

16- سورة 63 المؤمنون آية 45.