الآيات 1-3

هي مكية في قول مجاهد وقتادة، وهي مئة واحدى عشرة آية في الكوفي ومئة وعشر آيات في البصري والمدني.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ، وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً، ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾

القراءة:

قرأ أبو عمرو وحده " ألا يتخذوا " بالياء. الباقون بالتاء، والمعنى فيهما قريب، والتقدير، وجعلناه هدى لنبي إسرائيل ألا تتخذوا " وقلنا لهم: لا تتخذوا، كما تقول: قلت لزيد قم، وقلت له ان يقوم. وقال تعالى " قل للذين كفروا ستغلبون (1) " بالتاء والياء. ومعنى " من دوني وكيلا " أي كافيا وربا، ونصب " ذرية " على النداء، وهو خطاب لجميع الخلق، لان الخلق كله من نسل نوح من بنيه الثلاثة: حام: وهو أبو السودان، ويافث: وهو أبو البيضان: الروم والترك والصقالبة وغيرهم، وسام: وهو أبو العرب والفرس. وتقديره يا ذرية من حملنا، ووزن " ذرية " فعلية، من الذر، ويجوز أن يكون (فعولة) من الذر واصله (ذروية) فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء، قال أبو علي النحوي: ويجوز أن يكون نصبا على أنه مفعول الاتخاذ لأنه فعل يتعدى إلى مفعولين كقوله " واتخذ الله إبراهيم خليلا " (2) وقال " اتخذوا أيمانهم جنة " (3) وعلى هذا يكون مفعولا ثانيا على القراءتين، ومتى نصبته على النداء، فإنما يتأتى ذلك في قراءة من قرأ بالتاء، والأسهل أن يكون على قراءة من قرأ بالياء، لان الياء للغيبة، والنداء للخطاب، و (أن) في قوله " ألا تتخذوا " يحتمل ثلاثة أوجه:

أحدها: أن تكون (أن) الناصبة للفعل، والمعنى جعلناه هدى، كراهة أن تتخذوا، أو لان لا تتخذوا.

الثاني: أن تكون (أن) بمعني أي، لأنه بعد كلام تام والتقدير أي لا تتخذوا.

الثالث: أن تكون (أن) زائدة، ويضمر القول. والوكيل لفظه واحد، والمراد به الجمع، لان معناه حينئذ (فعيلا) فيكون مفرد اللفظ والمراد به الجمع، نحو قوله " وحسن أولئك رفيقا " (4). قال أبو عبيد: أهل المدينة يقولون في نصب (سبحان) أنه اسم في موضع مصدر سبحت الله تسبيحا، والتسبيح هو المصدر، وسبحان اسم منه، كقولك كفرت اليمين تكفيرا، أو كفرانا، والتكفير المصدر، الكفران الاسم، قال أمية ابن أبي الصلت:

سبحانه ثم سبحانا يعود له * وقبلنا سبح الجودي والجمد (5)

وقال بعضهم انه يجوز أن يكون نصبا على النداء، يريد: يا سبحان ومعناه: التنزيه لله والتبعيد له من كل ما لا يليق به، والتسبيح يكون بمعنى الصلاة، كقوله " فلولا انه كان من المسبحين (6) أي من المصلين - ذكره أكثر المفسرين - ومنه السبحة وهي النافلة. وروي أنه كان ابن عمر يصلي سبحته في موضعه الذي يصلي فيه المكتوبة ويكون بمعنى الاستثناء، كقوله " فلولا تسبحون " أي فلولا لا تستثنون، وهي لغة لبعض أهل اليمن، ولا وجه للكلام غيره، لأنه قال " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة " إلى قوله " ولا يستثنون " ثم " قال: أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون " (7) فذكرهم تركهم الاستثناء فأما سبحة النور التي دون الله، قال المبرد: لا يعرف إلا من الخبر الذي روي (لولا ذلك لأحرقت سبحات وجهه) بمعنى نور وجهه أي الذي إذا رأى الرائي قال سبحان الله. وقال سيبويه (سبحان) براءة الله من السوء وهذا اسم لهذا المعنى معرفة وقال الأعشى:

أقول لما جاءني فخره * سبحان من علقمة الفاخر (8)

اي براءة منه ولا ينزه بلفظ سبحان غير الله، وإنما ذكره الشاعر نادرا على الأصل واجراه كالمثل في قوله " وان من شئ الا يسبح بحمده " (9) معناه ليس شئ إلا وفيه دلالة على تنزيه الله مما لا يليق به، وقولهم: سبح تسبيحا أي قال سبحان الله، والسبح في التعظيم الجري فيه. والاسراء سير الليل، اسرى اسراء وسرى يسرى سرى لغتان، قال الشاعر:

وليلة ذات جى سريت * ولم يلتني عن سراها ليت (10)

وقوله " ليلا " معناه بعض الليل، على تقليل وقت الاسراء، ويقوي ذلك قراءة حذيفة، وعبد الله " من الليل " وروت أم هاني بنت أبي طالب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في منزلها ليلة أسري به. وقال الحسن وقتادة: كان في نفس المسجد الحرام. وروي عن أم هاني أن الحرم كله مسجد. والمسجد الأقصى هو بيت المقدس، وهو مسجد سليمان بن داود - في قول الحسن وغيره من المفسرين - وإنما قيل له: الأقصى، لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام. وقال الحسن: صلى النبي صلى الله عليه وسلم المغرب في المسجد الحرام. ثم أسري به إلى بيت المقدس في ليلة ثم رجع، فصلى الصبح في المسجد الحرام، فلما اخبر به المشركين كذبوا ذلك، وقالوا: يسير مسيرة شهر في ليلة واحدة ؟! وجعلوا يسألون عن بيت المقدس وما رأى في طريقه، فوصفه لهم شيئا شيئا بما يعرفونه ثم اخبرهم انه رأى في طريقه قعبا مغطا مملوءا ماء فشرب الماء كله ثم غلطاه كما كان، ووصف لهم صفة إبل كانت لهم في طريق الشام تحمل المتاع، فقال تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق، فقعدوا في ذلك اليوم يستقبلونها، فقال قائل منهم: هذه والله الشمس قد أشرقت، ولم تأت وقال آخر هذا والله العير يقدمها جمل اورق، كما ذكر محمد، فكان ذلك معجزة له باهرة، ودلالة واضحة لولا العناد، وكان نفس الاسراء حجة له صلى الله عليه وسلم لا انه يحتاج إلى دلالة كغيره، ولذلك قال تعالى " لنريه من آياتنا " فكان الاسراء من جملة الآيات التي تأكد بها يقينه وازدادت به بصيرته، لأنه كان قد علم نبوته بما تقدم له من الآيات، فكان هذا على وجه التأكيد لذلك. وعند أصحابنا وأكثر أصحاب التأويل، وذكره الجبائي أيضا: انه عرج به في تلك الليلة إلى السماء وأت حتى بلغ سدرة المنتهى في السماء السابعة، واراه الله من آيات السماوات والأرض ما ازداد به معرفة ويقينا، وكان ذلك في يقظته دون منامه، والذي يشهد به القرآن الاسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والباقي يعلم بالخبر. وقوله " الذي باركنا حوله " يعني بالثمار ومجاري الأنهار، وقيل " باركنا " حوله بمن جعلنا حوله من الأنبياء والصالحين، ولذلك جعله مقدسا. " لنريه من آياتنا " من العجائب التي فيها اعتبار. وروي أنه كان رأى الأنبياء حتى وصفهم واحدا واحدا. وقوله " إنه هو السميع البصير " اخبار منه تعالى أنه يجب أن يدرك المبصرات والمسموعات إذا وجدت، لأنه حي ولا يجوز عليه الآفات. وقوله " وآتينا موسى الكتاب " يعني التوراة " وجعلناه " يعني التوراة التي أنزلها " هدى " ودلالة لبني إسرائيل، وقلنا لهم " لا تتخذوا من دوني وكيلا " أي ربا تتوكلون عليه وكافيا تسندون أموركم إليه وقال مجاهد: معنى " وكيلا " شريكا، قال المبرد: هذا لا شاهد له في اللغة. وقلنا يا " ذرية من حملنا مع نوح " في سفينته وقت الطوفان " انه كان عبدا شكورا " يعني نوحا كان عبدا، كان لله شاكرا له على نعمه. وروي انه إذا كان أراد أكل طعام أو شراب قال: بسم الله، إذا شبع قال الحمد لله، ومن قال: هو نصب على أنه مفعول، فإنه قال تقديره لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلا من دوني.


1- سورة 4 النساء آية 125.

2- سورة 58 المجادلة آية 16.

3- سورة النساء آية 69.

4- مر هذا البيت في 3: 82، 5: 563.

5- سورة 37 الصافات آية 143.

6- سورة 27 القلم اية 17 - 29.

7- ديوانه (دار بيروت) 94 وقد مر في 1: 124، 81، 5: ، 241، 395.

8- سورة 17 الاسرى آية 44.

9- تفسير القرطبي 10: 205 ورايته (ندى) بدل (دجى) وتفسير الطبري (الطبعة الأولى) 15: 3، واللسان (ليت) ولم يعرف قائله. والمعنى: سرت في ليلة دجى، ولم يؤخرني، ولا منعني عن السير مانع.

10- سورة 41 حم السجدة (فصلت) آية 12.