الآيات 16-20

قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾

القراءة:

قرأ (وما نزل من الحق) بتخفيف الزاي نافع وحفص عن عاصم، لأنه يقع على القليل والكثير، ويكون النزول مضافا إلى الحق. الباقون بالتشديد بمعنى أن الله هو الذي نزل الحق شيئا بعد شئ. وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم وابن زيد (المصدقين والمصدقات) بتخفيف الصاد يذهبون إلى التصديق الذي هو خلاف التكذيب، ومعناه إن المؤمنين والمؤمنات. الباقون - بتشديد الصاد - يذهبون أن الأصل المتصدقين، فأدغمت التاء في الصاد لتقارب مخرجهما وشدد. ومعنى قوله (ألم يأن) ألم يحن (للذين آمنوا ان تخشع قلوبهم لذكر الله) أي تخضع لسماع ذكر الله ويخافون عقابه، وينبغي أن يكون هذا متوجها إلى طائفة مخصوصة لم يكن فيهم الخشوع التام حثوا على الرقة والرحمة. وأما من كان ممن وصفه الله بالخشوع والرحمة والرقة فطبقة فوق هؤلاء المؤمنين، ويقال أنى يأني أنا إذا حان، ومنه قوله (غير ناظرين إناه) (1) أي منتهاه. والخشوع لين القلب للحق بالانقياد له، ومثله الخضوع وضده قسوة القلب. والحق ما دعا إليه العقل وهو الذي من عمل به نجا ومن عمل بخلافه هلك، والحق مطلوب كل عاقل في نظره وإن أخطأ طريقه، والقسوة غلظ القلب بالجفاء عن قبول الحق، قسا قلبه يقسو قسوة، فهو قاس. (وما نزل من الحق) من خفف أضاف النزول إلى الحق ومن شدد أراد ما نزله الله من الحق (ولا يكونوا) أي وألا تكونوا (كالذين أوتوا الكتاب) من اليهود والنصارى (من قبل) أي من قبلهم فيكون موضعه نصبا. ويحتمل أن يكون مجزوما على النهي (فطال عليهم الأمد) يعني المدة والوقت، فان أهل الكتاب لما طال عليهم مدة الجزاء على الطاعات (فقست قلوبهم) حتى عدلوا عن الواجب وعملوا بالباطل. وقيل: معناه طال عليهم الأمد ما بين زمانهم وزمن موسى. وقيل: طال عليهم الأمد ما بين نبيهم وزمن موسى. وقيل طال أمد الآخرة (فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) خارجون عن طاعة الله تعالى إلى معصيته فلا تكونوا مثلهم فيحكم الله فيكم بمثل ما حكم فيهم. ثم قال (اعلموا ان الله يحيي الأرض بعد موتها) بالجدب والقحط فكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الايمان بعد موته بالضلال بأن يلطف له ما يؤمن عنده. ثم قال (قد بينا لكم الآيات) يعني الحجج الواضحات والدلائل البينات (لعلكم تعقلون) أي لكي تعقلوا وترجعوا إلى طاعته وتعملوا بما يأمركم به. وقوله (إن المصدقين والمصدقات) من شدد أراد المتصدقين إلا أنه أدغم التاء في الصاد، ومن خفف أراد الذين صدقوا بالحق (وأقرضوا الله قرضا حسنا) أي انفقوا مالهم في طاعة الله وسبيل مرضاته. ثم بين ما أعد لهم من الجزاء فقال (يضاعف لهم) أي يجازون بأمثال ذلك. ومن شدد العين أراد التكثير، لان الله تعالى يعطي بالواحد عشرا إلى سبعين إلى سبع مئة، ثم قال " ولهم أجر كريم " أي لهم جزاء وثواب مع إكرام الله إياهم وإجلاله لهم. ثم قال (والذين آمنوا بالله ورسله) يعني الذين صدقوا بتوحيد الله وإخلاص العبادة له وأقروا بنبوة رسله (أولئك هم الصديقون) الذين صدقوا بالحق. ثم قال مستأنفا (والشهداء عند ربهم) قال ابن عباس ومسروق وأبو الضحى والضحاك: هو منفصل مما قبله مستأنف والمراد بالشهداء الأنبياء عليهم السلام ويجوز أن يكون معطوفا على ما تقدم وتقديره أولئك هم الصديقون وأولئك هم الشهداء، ويكون لهم أجرهم ونورهم للجماعة من الصديقين والشهداء، فكأنه قال: كل مؤمن شهيد على ما رواه البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وآله وعن عبد الله بن مسعود ومجاهد، فيكون التقدير أولئك هم الصديقون عند ربهم والشهداء عند ربهم. ثم قال (لهم أجرهم ونورهم) أي لهم ثواب طاعاتهم ونور إيمانهم الذي يهتدون به إلى طريق الجنة. ثم قال (والذين كفروا) بالله وجحدوا توحيده وكذبوا رسله " وكذبوا بآياتنا " يعني حججه وبيناته " أولئك أصحاب الجحيم " يعني أنهم يلزمهم الله الجحيم فيبقون فيها دائمين. ثم زهد المؤمنين في الدنيا والسكون إلى لذاتها، فقال (اعلموا) معاشر العقلاء والمكلفين " إنما الحياة الدنيا " يعني في هذه الدنيا " لعب ولهو " لأنه لا بقاء لذلك ولا دوام وإنه يزول عن وشيك كما يزول اللعب واللهو " وزينة " تتزينون بها في الدنيا " وتفاخر بينكم " يفتخر بعضكم على بعض " وتكاثر في الأموال والأولاد " أي كل واحد يقول مالي أكثر وأولادي أكثر. ثم شبه ذلك بأن قال مثله في ذلك " كمثل غيث " يعني مطرا " أعجب الكفار نباته " أي أعجب الزراع ما نبت بذلك الغيث فالكفار الزراع. وقال الزجاج: ويحتمل أن يكون المراد الكفار بالله لأنهم أشد إعجابا بالدنيا من غيرهم " ثم يهيج " أي ييبس فيسمع له لما تدخله الريح صوت الهائج " فتراه مصفرا " وهو إذا قارب اليبس (ثم يكون حطاما) أي هشيما بأن يهلكه الله مثل افعال الكافر بذلك، فإنها وإن كانت على ظاهر الحسن فان عاقبتها إلى هلاك ودمار مثل الزرع الذي ذكره. ثم قال وله مع ذلك " وفى الآخرة " (عذاب شديد) من عذاب النار للعصاة والكفار " ومغفرة من الله ورضوان " للمؤمنين المطيعين. ثم قال " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " معناه العمل للحياة الدنيا متاع الغرور وإنها كهذه الأشياء التي مثل بها في الزوال والفناء، والغرور - بضم الغين - ما يغر من متاع الدنيا وزينتها.


1- سورة 33 الأحزاب آية 53.