الآيات 6-10
قوله تعالى: ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ، وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ، وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾
القراءة:
قرأ أبو عمرو وحده (وقد اخذ ميثاقكم) بضم الألف، على ما لم يسم فاعله. الباقون - بالفتح - بمعنى واخذ الله ميثاقكم، وقرأ ابن عامر ووحده (وكل وعد الله الحسنى) بالرفع، وهي في مصاحفهم بلا الف جعله مبتدءا وخبرا وعدى الفعل إلى ضميره، وتقديره: وكل وعده الله الحسنى، كما قال الراجز:
قد أصبحت أم الخيار تدعي * علي ذنبا كله لم أصنع
أي لم اصنعه، فحذف الهاء. الباقون بالنصب على أنه مفعول (وعد الله) وتقديره وعد الله كلا الحسنى، ويكون (الحسنى) في موضع نصب بأنه مفعول ثان وهو الأقوى. معنى قوله (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) أي إن ما ينقص من الليل يزيده في النهار، وما ينقص من النهار يزيده في الليل حسب ما قدره على علم من مصالح عباده. وقيل: إن معناه إن كل واحد منهما يتعقب صاحبه (وهو عليم بذات الصدور) ومعناه هو عالم بأسرار خلقه وما يخفونه في قلوبهم من الضمائر والاعتقادات لا يخفى عليه شئ منها. ثم امر تعالى المكلفين فقال (آمنوا بالله) معاشر العقلاء وصدقوا نبيه وأقروا بوحدانيته واخلاص العبادة له، وصدقوا رسوله، واعترفوا بنبوته (وانفقوا) في طاعة الله والوجوه التي أمركم الله بالانفاق فيها (مما جعلكم مستخلفين فيه) قال الحسن: معناه ما أستخلفكم فيه بوراثتكم إياه عمن كان قبلكم. ثم بين ما يكافيهم به إذا فعلوا ذلك، فقال (فالذين آمنوا منكم) بما أمرتهم بالايمان به (وانفقوا) مما دعوتهم إلى الانفاق فيه (لهم مغفرة) من الله لذنوبهم (واجر كبير) أي وثواب عظيم. ثم قال الله تعالى على وجه التوبيخ لهم (ومالكم) معاشر المكلفين (لا تؤمنون بالله) وتعترفون بوحدانيته واخلاص العبادة له (والرسول يدعوكم) إلى ذلك (لتؤمنوا بربكم) أي لتعترفوا به وتقروا بوحدانيته (وقد أخذ ميثاقكم) معناه إنه لما ذكر تعالى دعاء الرسول إلى الايمان بين انه قد اخذ ميثاقكم أيضا به، ومعنى اخذ ميثاقكم انه نصب لكم الأدلة الدالة إلى الايمان بالله ورسوله ورغبكم فيه وحثكم عليه وزهدكم في خلافه، ومعنى (إن كنتم مؤمنين) اي إن كنتم مؤمنين بحق فالايمان قد ظهرت أعلامه ووضحت براهينه: ثم قال (هو الذي ينزل على عبده) يعني ان الله تعالى هو الذي ينزل على محمد صلى الله عليه وآله (آيات بينات) أي حججا وأدلة واضحة وبراهين نيرة (ليخرجكم من الظلمات إلى النور) ومعناه فعل بكم ذلك ليخرجكم من الضلال إلى الهدى - في قول مجاهد وغيره - وفي ذلك دلالة على بطلان قول المجبرة: إن الله تعالى خلق كثيرا من خلقه ليكفروا به ويضلوا عن دينه. وإنما أخرجهم من الضلال إلى الهدى بما نصب لهم من الأدلة التي إذا نظروا فيها أفضى بهم إلى الهدى والحق، فكأنه أخرجهم من الضلال، وإن كان الخروج من الضلال إلى الهدى من فعلهم، وسمى الدلالة نورا، لأنه يبصر بها الحق من الباطل، وكذلك العلم، لأنه يدرك به الأمور كما تدرك بالنور، فالقرآن بيان الاحكام على تفصيلها ومراتبها. وقوله (إن الله بكم لرؤف رحيم) اخبار منه تعالى أنه بخلقه رؤوف رحيم. والرأفة والرحمة من النظائر. وقوله " وما لكم أن لا تنفقوا في سبيل الله " استبطأهم في الانفاق في سبيل الله الذي رغبهم بالانفاق فيها. وقوله " ولله ميراث السماوات والأرض " قد بينا أن جميع ما يملكونه في الدنيا يرجع إلى الله، ويزول ملكهم عنه، فان أنفقوه كان ثواب ذلك باقيا لهم. وقوله " لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل.. " بين الله تعالى أن الانفاق قبل الفتح في سبيل الله إذا انضم إليه الجهاد في سبيله أكثر ثوابا عند الله، والمراد بالفتح فتح مكة وفي الكلام حذف، لان تقديره لا يستوى هؤلاء مع الذين أنفقوا بعد الفتح، والكلام يدل عليه. وإنما امتنع مساواة من انفق بعده لمن انفق قبله، لعظم العناية الذي لا يقوم غيره مقامه فيه، في الصلاح في الدين وعظم الانتفاع به، كمالا يقوم دعاء غير النبي صلى الله عليه وآله إلى الحق مقام دعائه ولا يبلغه أبدا، وليس في الآية دلالة على فضل انسان بعينه ممن يدعى له الفضل، لأنه يحتاج أن يثبت ان له الانفاق قبل الفتح، وذلك غير ثابت. ويثبت أن له القتال بعده. ولما يثبت ذلك أيضا فكيف يستدل به على فضله. فأما الفتح فقال الشعبي: أراد فتح الحديبية. وقال زيد بن اسلم، وقتادة: أراد به فتح مكة. ثم سوى تعالى بين الكل في الوعد بالخير والجنة والثواب فيها - وإن تفاضلوا في مقاديره - فقال " وكلا وعد الله الحسنى " يعني الجنة والثواب فيها " والله بما تعملون خبير " لا يخفى عليه شئ من ذلك من انفاقكم وقتالكم وغير ذلك فيجازيكم بحسب ذلك.