الآيات 1-6
مدينة بلا خلاف، وهي تسع وعشرون آية في الكوفي والبصري وثمان وعشرون في المدينين.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾
يقول الله تعالى مخبرا ان جميع ما في السماوات والأرض يسبح له. وقد بينا في غير موضع معنى التسبيح وانه التنزيه له عن الصفات التي لا تليق به. فمن كان من العقلاء عارفا به فإنه يسبحه لفظا ومعنى، وما ليس بعاقل من سائر الحيوان والجمادات فتسبيحها ما فيها من الآية الدالة على وحدانيته وعلى الصفات التي باين بها جميع خلقه، وما فيها من الحجج على أنه لا يشبه خلقه وأن خلقه لا يشبهه، ذلك بالتسبيح. وإنما كرر ذكر التسبيح في غير موضع من القرآن لانعقاده لمعان مختلفة لا ينوب بعضها مناب بعض، فمن ذلك قوله " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " (1) فهذا تسبيح بحمد الله وأما " سبح لله ما في السماوات والأرض " فهو تسبيح بالله " العزيز الحكيم " فكل موضع ذكر فيه فلعقده بمعنى لا ينوب عنه غيره منابه، وإن كان مخرج الكلام على الاطلاق " والعزيز الحكيم " معناه المنيع بأنه قادر لا يعجزه شئ العليم بوجوه الصواب في التدبير، ولا تطلق صفة " العزيز الحكيم " إلا فيه تعالى، لأنه على هذا المعنى. وقوله " له ملك السماوات والأرض " اخبار بأن له التصرف في جميع ما في السماوات والأرض وليس لاحد منعه منه ولا أن أحدا ملكه ذلك وذاك هو الملك الأعظم، لان كل ما عداه فما يملكه، فان الله هو الذي ملكه إياه، وله منعه منه. وقوله " يحيي ويميت " معناه يحيي الموات، لأنه يجعل النطفة وهي جماد حيوانا ويحييها بعد موتها يوم القيامة، ويميت الاحياء إذا بلغوا آجالهم التي قدرها لهم " وهو على كل شئ قديرا " أي كل ما يصح أن يكون مقدورا له، فهو قادر عليه. وقوله " هو الأول والآخر " قيل في معناه قولان:
أحدهما: قال البلخي إنه كقول القائل: فلان أول هذا الامر وآخره وظاهره وباطنه أي عليه يدور الامر وبه يتم
الثاني: قال قوم: هو أول الموجودات لأنه قديم سابق لجميع الموجودات وما عداه محدث. والقديم يسبق المحدث بمالا يتناهى من تقدير الأوقات. والآخر بعد فناء كل شئ، لأنه تعالى يفني الأجسام كلها وما فيها من الاعراض، ويبقى وحده ففي الآية دلالة على فناء الأجسام. وقوله " الظاهر والباطن " قيل في معناه قولان:
أحدهما: انه العالم بما ظهر وما بطن
الثاني: انه القاهر لما ظهر وما بطن من قوله تعالى " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين " (2) ومنه قوله " ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " (3) وقيل: المعنى إنه الظاهر بادلته الباطن من إحساس خلقه " وهو بكل شئ عليم " ما يصح أن يكون معلوما، لأنه عالم لنفسه. ثم اخبر تعالى عن نفسه فقال " هو الذي خلق السماوات والأرض " أي اخترعهما وأنشأهما " في ستة أيام " لما في ذلك من اعتبار الملائكة بظهور شئ بعد شئ من جهة ولما في الاخبار به من المصلحة للمكلفين ولولا ذلك لكان خلقها في لحظة واحدة، لأنه قادر على ذلك من حيث هو قادر لنفسه. وقوله " ثم استوى على العرش " أي استولى عليه بالتدبير قال البعيث:
ثم استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق (4)
وهو بشر بن مروان، لما ولاه اخوه عبد الملك بن مروان. وقيل: معناه ثم عمد وقصد إلى خلق العرش، وقد بينا ذلك فيما تقدم. ثم قال " يعلم ما يلج في الأرض " أي ما يدخل في الأرض ويستتر فيها، فالله عالم به لا يخفى عليه منه شئ " وما يخرج منها " أي ويعلم ما يخرج من الأرض من سائر النبات والحيوان والجماد ولا يخفى عليه شئ " وما ينزل من السماء " أي ويعلم ما ينزل من السماء من مطر وغير ذلك من أنواع ما ينزل منها لا يخفى عليه شئ منها " وما يعرج فيها " أي ويعلم ما يعرج في السماء من الملائكة وما يرفع إليها من أعمال الخلق " وهو معكم " بعني بالعلم لا يخفى عليه حالكم وما تعملونه " والله بما تعملون بصير " من خير وشر أي عالم به. ثم قال " له ملك السماوات والأرض " أي له التصرف فيهما على وجه ليس لأحد منعه منه " واليه ترجع الأمور " يوم القيامة. والمعنى أن جميع من ملكه شيئا في دار الدنيا يزول ملكه ولا يبقى ملك أحد، ويتفرد تعالى بالملك، فذلك معنى قوله (واليه ترجع الأمور) كما كان كذلك قبل أن يخلق الخلق.
1- سورة 17 الاسرى آية 44.
2- سورة 61 الصف آية 14.
3- سورة 17 الاسرى آية 88.
4- مر في 1 / 125، و 2 / 396 و 4 / 452 و 5 / 386.