الآيات 71-80

قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لَّا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ، تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة إلا عاصما (بموقع) على التوحيد. الباقون (بمواقع) على الجمع. هذا تنبيه آخر من الله تعالى على قدرته على النشأة الثانية، وعلى وجه الدلالة على ذلك وعلى اختصاصه بصفات لا يشركه فيها غيره، لأنه قال (أفرأيتم) معاشر العقلاء (النار التي تورون) فالنار مأخوذ من النور، ومنه قول الحارث ابن حلزة:

فتنورت نارها من بعيد * بخزازي هيهات منك الصلاء (1)

وجمع النور أنوار، وجمع النار نيران، والنار على ضربين: نار محرقة، ونار غير محرقة. فالتي لا تحرق النار الكامنة بما هي مغمورة به كنار الشجر ونار الحجر ونار الكيد. والتي تحرق هي النار الظاهرة فيما هي مجاورة له مما من شأنه الاشتعال، وهي معروفة. ومعنى " تورون " تظهرون النار، ولا يجوز الهمزة، لأنه من اورى يورى إيراء إذا قدح، فمعنى تورون تقدحون. وورى الزند يوري، فهو وار إذا. انقدحت منه النار، ووريت بك زنادي إذا أصابك أمري كما يضيئ القدح بالزناد ثم قال " أأنتم أنشأتم شجرتها " يعني الشجرة التي تنقدح منها النار أي أنتم أنبتموها وابتدأتموها " أم نحن المنشئون " لها، فلا يمكن أحد ان يدعي ان الذي أنشأها غير الله تعالى والعرب تقدح بالزند والزندة، وهو خشب معروف يحك بعضه ببعض فيخرج منه النار - ذكره الزجاج وغيره - وفى المثل (كل شجرة فيها نار واستمجد المرخ والعفار) فان قيل: لم لا يكون نار الشجر بطبع الشجر لا من قادر عليه. قيل: الطبع غير معقول، فلا يجوز أن يسند إليه الافعال، ولو جاز ذلك للزم في جميع افعال الله، وذلك باطل ولو كان معقولا لكان ذلك الطبع لابد أن يكون في الشجر والله تعالى الذي أنشأ الشجرة وما فيها، فقد رجع إلى قادر عليه وإن كان بواسطة، ولو جاز أن تكون النار من غير قادر عليها لجاز أن يكون من عاجز، لأنه إذا امتنع الفعل ممن ليس بقادر عليه منا، لأنه فعل، وكل فعل ممتنع ممن ليس بقادر عليه. وقوله " نحن جعلناها " يعني تلك النار " تذكرة ومتاعا للمقوين " أي جعلنا النار تذكرة للنار الكبرى، وهي نار جهنم، فيكون ذلك زجرا عن المعاصي التي يستحق بها النار - في قول مجاهد وقتادة - ويجوز أن يكون المراد تذكرة يتذكر بها ويتفكر فيها ويعتبر بها، فيعلم انه تعالى قادر على النشأة الثانية، كما قدر على إخراج النار من الشجر الرطب. وقوله " ومتاعا للمقوين " يعني ينتفع بها المسافرون الذين نزلوا الأرض القي وهي القفر، قال الراجز: قي يناصيها بلاد قي (2) وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: للمقوين المسافرين، وقيل: هو من أقوت الدار إذا خلت من أهلها قال الشاعر:

أقوى واقفر من نعم وغيرها * هوج الرياح بها في الترب موار (3)

وقد يكون المقوي الذي قويت خيله ونعمه في هذا الموضع. ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله والمراد به جميع المكلفين بأن " سبح بحمد ربك العظيم " أي نزه الله تعالى عما لا يليق به وأدعه باسمه العظيم. وقوله " فلا اقسم بمواقع النجوم " قال سعيد به جبير: (لا) صلة والتقدير أقسم. وقال الفراء: هي نفي بمعنى ليس الامر كما تقولون. ثم استؤنف " اقسم " وقيل (لا) تزاد قبل القسم، كقولك لا والله لا افعل، ولا والله ما كلمت زيدا وقال امرؤ القيس:

لا وأبيك ابنة العامري * لا يدعي القوم اني أفر (4)

بمعنى وأبيك و (لا) زائدة و " مواقع النجوم " قال ابن عباس ومجاهد أي القرآن، لأنه أنزل نجوما. وقال مجاهد - في رواية أخرى - وقتادة: يعني مساقط نجوم السماء ومطالعها. وقال الحسن: معناه انكدارها وهو انتشارها يوم القيامة، ومن قرأ " بموقع " فلانه يقع على الكثير والقليل. ومن قرأ على الجمع، فلاختلاف أجناسه. وقوله " وإنه لقسم لو تعلمون عظيم " اخبار من الله تعالى بأن هذا القسم الذي ذكره بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون عظمه لانتفعتم بعلمه. والقسم جملة من الكلام يؤكد بها الخبر بما يجعله في قسم الصواب دون الخطأ على طريقة بالله إنه لكذا. وقال أبو علي الجبائي: القسم في كل ما ذكر في القرآن من المخلوقات إنما هو قسم بربه، وهذا ترك الظاهر من غير دليل، لأنه قد يجوز ذلك على جهة التنبيه على ما في الأشياء من العبرة والمنفعة. وقد روي أنه لا ينبغي لاحد أن يقسم إلا بالله، ولله ان يقسم بما يشاء من خلقه، فعلى هذا كل من اقسم بغير الله أو بشي من صفاته من جميع المخلوقات أو الطلاق أو العتاق لا يكون ذلك يمينا منعقدة، بل يكون كلاما لغوا. والعظيم هو الذي يقصر عن مقداره غيره فيما يكون منه، وهو على ضربين:

أحدهما: عظيم الشخص

والآخر: عظيم الشأن. وقوله " إنه لقرآن كريم " معناه إن الذي تلوناه عليكم لقرآن تفرقون به بين الحق والباطل " كريم " فالكريم هو الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير، فلما كان القرآن من شأنه أن يعطي الخير الكثير بالأدلة التي تؤدي إلى الحق في الدين كان كريما على حقيقة معنى الكريم، لا على التشبيه بطريق المجاز، والكريم في صفات الله من الصفات النفسية التي يجوز فيها لم يزل كريما، لان حقيقته تقتضي ذلك من جهة ان الكريم الذي من شأنه ان يعطي الخير الكثير، فلما كان القادر على التكرم هو الذي لا يمنعه مانع من شأنه ان يعطي الخير الكثير صح أن يقال إنه لم يزل كريما. وقوله " في كتاب مكنون " قيل: هو اللوح المحفوظ أثبت الله تعالى فيه القرآن والمكنون المصون. وقوله " لا يمسه إلا المطهرون " قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: لا يمس الكتاب الذي في السماء إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة - في قول ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وجابر وابن زيد وأبي نهيد ومجاهد. وقيل " لا يمسه إلا المطهرون " في حكم الله. وقد استدل بهذه الآية على أنه لا يجوز للجنب والحائض والمحدث أن يمسوا القرآن، وهو المكتوب في الكتاب الذي فيه القرآن أو اللوح. وقال قوم: إنه لا يجوز لهم ان يمسوا الكتاب الذي فيه، ولا أطراف أو راقه، وحملوا الضمير على أنه راجع إلى الكتاب وهو كل كتاب فيه القرآن. وعندنا إن الضمير راجع إلى القرآن. وإن قلنا إن الكتاب هو اللوح المحفوظ، فلذلك وصفه بأنه مصون، ويبين ما قلناه قوله " تنزيل من رب العالمين " يعني هذا القرآن تنزيل من رب العالمين أنزله الله الذي خلق الخلائق ودبرهم على ما أراد.


1- اللسان (نور).

2- اللسان (قوا).

3- تفسير الطبري 27 / 104.

4- ديوانه (السندوبى) 94.