الآيات 90-91
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾
يقول الله تعالى مخبرا عن نفسه " ان الله بأمر بالعدل " يعنى الانصاف بين الخلق، وفعل ما يجب على المكلف و " الاحسان " إلى الغير، ومعناه يأمركم بالاحسان، فالأمر بالأول على وجه الايجاب، وبالاحسان على وجه الندب. وفي ذلك دلالة على أن الامر يكون أمرا بالندوب إليه دون الواجب، " وإيتاء ذي القربى " اي وأمرك باعطاء ذي القربى، ويحتمل أمرين:
أحدهما: صلة الأرحام، فيكون ذلك عاما في جميع الخلق.
الثاني: أن يكون أمرا بصلة قرابة النبي صلى الله عليه وسلم وهم الذين أرادهم الله بقوله " فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى " (1) على ما بيناه فيما قبل وقوله " وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي " إنما جمع بين الأوصاف الثلاثة في النهي عنها مع أن الكل منكر فاحش، ليبين بذلك تفصيل ما نهى عنه، لان الفحشاء قد يكون ما يفعله الانسان في نفسه مما لا يظهر أمره ويعظم قبحه. والمنكر ما يضر للناس مما يجب عليهم إنكاره، والبغي ما يتطاول به من الظلم. لغيره، ولا يكون البغي من الفاعل لغيره، والظلم قد يكون ظلم الفاعل لنفسه. وروي عن أبي عيينة، أنه قال: العدل هو استواء السريرة والعلانية، والاحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته، والفحشاء والمنكر أن يكون علانيته أحسن من سريرته. ثم بين تعالى أنه يعظ بما ذكره خلقه، لكي يذكروا ويتفكروا، ويرجعوا إلى الحق. ثم أمر تعالى خلقه بأن يفوا بعهده إذا عاهدوا عليه، والعهد الذي يجب الوفاء به: هو كل فعل حسن إذا عقد عليه، وعاهد الله ليفعلنه بالعزم عليه، فإنه يصير واجبا عليه، ولا يجوز له خلافه، ثم يكون عظم النقض بحسب الضرر به، فأما إذا رأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفر، عند الفقهاء. وقال أصحابنا: إذا وجد خيرا منه فعل الخير، ولا كفارة عليه، وهذا يجوز فيما كان ينبغي ان يشرط، فأما إذا أطلقه وهو لا يأمن أن يكون غيره خير منه فقد أساء باطلاق العقد عليه. ثم قال " ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها " نهي منه تعالى عن حنث الايمان بعد عقدها وتأكيدها، يقال أكدته تأكيدا ووكدته توكيدا، والأصل الواو، وإنما أبدلت الهمزة منها كما قالوا: وقيت في أوقيت. وفي الآية دلالة على أن اليمين على المعصية غير منعقدة، لأنها لو كانت منعقدة لما جاز نقضها، وأجمعوا على أنه يجب نقضها، ولا يجوز الوفاء بها، فعلم بذلك ان اليمين على المعصية غير منعقدة. والنقض في المعاني يمكن في مالا يجوز ان يصح مع خلافه، بل إن كان حقا فخلافه باطل، وإن كان باطلا فخلافه حق، نحو إرادة الشئ وكراهته، والامر بالشئ والنهي عنه والتوبة من الشئ والعود فيه وما أشبه ذلك. وقوله " وقد جعلتم الله عليكم كفيلا " اي حسيبا فيما عاهدتموه عليه " إن الله يعلم ما تفعلون " من نقض العهد والوفاء به، وذلك تهديد ووعيد بأن يجازي على ما يكون منكم على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب. وقيل: إن الآية نزلت في الذين بايعوا النبي صلى الله على وسلم على الاسلام. وقال بعضهم نزلت في الحلف الذي كان عليه أهل الشرك، فأمروا في الاسلام بالوفاء به ذكره ابن زيد.
1- سورة الأنفال آية 41 وقد بين معناها في 5: 143.