الآيات 61-63
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ، وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ، تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
القراءة:
قرأ نافع " مفرطون " بكسر الراء والتخفيف، من الافراط في الشئ اي الاسراف، بمعنى انهم مسرفون. وقرأ أبو جعفر مثل ذلك بالكسر غير أنه شدد الراء من التفريط في الواجب. وقرأ الباقون بفتح الراء والتخفيف، ومعناه انهم متروكون في النار منسيون فيها - في قول قتادة ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك - وقال الحسن وقتادة - في رواية أخرى - ان المعنى انهم مقدمون بالاعجال إلى النار، وهو من قول العرب: أفرطنا فلان في طلب الماء، فهو مفرط إذا قدم لطلبه، وفرط فهو فارط إذا تقدم لطلبه، وجمعه فراط، قال القطامي:
واستعجلونا وكانوا من صحابتنا * كما تعجل فراط لوراد (1)
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (انا فرطكم على الحوض) اي متقدمكم وسابقكم حتى تردوه. ومنه يقال في الصلاة على الصبي الميت: اللهم اجعله لنا ولأبويه فرطا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (انا والنبيون فراط العاصين) اي المذنبين، والتأويل الأول من قول العرب: ما أفرطت ورائي أحدا اي ما خلفت ولا تركت. والمعنى يرجع إلى التقدم اي ما تقدمت أحدا ورائي. اخبر الله تعالى انه لو كان ممن يؤاخذ الكفار والعصاة بذنوبهم، ويعاجلهم بعقوباتهم واستحقاق جناياتهم وظلمهم " لما ترك " على وجه الأرض أحدا، ممن يستحق ذلك من الظالمين. وإنما يؤخرهم تفضلا منه ليراجعوا التوبة، أو لما في ذلك من المصلحة لباقي المكلفين والاعتبار بهم، فلا تغتروا بالامهال، انكم مثلهم في استحقاق العقاب على ظلمكم. وقيل في وجه تعميمهم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنين قولان:
أحدهما: ان الاهلاك وان عمهم فهو عذاب الظالم دون المؤمن، لان المؤمن يعوض عليه.
الثاني: أن يكون ذلك خاصة. والتقدير ما ترك عليها من دابة من أهل الظلم. وقيل إن المعنى أنه لو هلك الآباء بكفرهم لم يوجد الأبناء. وقوله " ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى " يعني الأجل الذي قدره لموتهم وهلاكهم، فإذا جاء ذلك الأجل، لا يتقدمون عليه لحظة ولا يتأخرون. وقوله " عليها " يعني على الأرض لدلالة قوله " ما ترك عليها من دابة " اي دابة عليها لأنها تدب على الأرض. وقوله " يجعلون لله ما يكرهون " يعني يضيفون إلى الله البنات مع كراهية ذلك لنفوسهم " وتصف ألسنتهم الكذب ان لهم الحسنى " فقول (ان) بدل من الكذب، وموضعه النصب. وقيل في معناه قولان:
أحدهما: قال الحسن: فيما حكاه الزجاج: ان لهم الجزاء الحسنى /.
الثاني: قال مجاهد: ان لهم البنين مع جعلهم لله البنات اللاتي يكرهونهن. ثم قال تعالى " لا جرم أن لهم النار " ومعناه حقا أن لهم النار، في أقوال المفسرين. وقيل: معناه لابد ان لهم النار، فجرم على هذا اسم، كأنه قال: قطع ان لهم النار وقال بعضهم " جرم " فعل ماض و (لا) رد لكلام متقدم، فكأنه قيل: قطع الحق أن لهم النار. وقيل: وجب قطعا ان لهم النار. وقيل: كسب فعلهم أن لهم النار، وانهم مفرطون مقدمون ومعجلون إلى النار. وقال الخليل: " لا جرم " لا يكون الا جوابا، تقول: فعلوا كذا وكذا، فيقال: لا جرم انهم سيندمون قال الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة * جرمت فزارة بعدها ان يغضبوا (2)
اي بعثتهم على ذلك ومثله " لا يجر منكم شقاقي " (3) اي لا يبعثكم عداوتي " على أن يصيبكم " ومثله " لا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا " (4) ثم اقسم تعالى، فقال " لقد أرسلنا " يعني رسلا إلى أمم من قبلك يا محمد " فزين لهم الشيطان اعمالهم " يعني كفرهم وضلالهم وتكذيب رسل الله زينه الشيطان لهم. وقوله " فهو وليهم اليوم " قيل في معناه قولان:
أحدهما: انه ناصرهم في الدنيا، لأنه يتولى اغواءهم وسبب هلاكهم " ولهم عذاب اليم " يوم القيامة.
الثاني: انه يوم القيامة وليهم، لأنه لا يمكنه ان يتولى صرف المكروه عن نفسه، فكيف يتولى صرفه عنهم. ثم اخبر تعالى ان لهم عنده عذابا أليما موجعا مؤلما جزاء على كفرهم ومعاصيهم.
1- تفسير الشوكاني (الفتح القدير) 3 / 165 وتفسير الطبري 14 / 79 واللسان (عجل).
2- مر هذا البيت في 3 / 423، 5 / 473، 534.
3- سورة هود آية 89.
4- سورة المائدة آية 9.