الآية 143
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إلى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾
القراءة:
قرأ أهل الحجاز إلا عاصما " دكاء " بالمد والهمزة من غير تنوين - ههنا وفى الكهف - وافقهم عاصم في الكهف. الباقون " دكا " منونة مقصورة في الموضعين، قال أبو زيد: يقال: دككت على الميت التراب أدكه دكا: إذا دفنته وأهلت عليه، وهما بمعنى واحد، ودككت الركية دكا إذا دفنته، ودك الرجل فهو مدكوك إذا مرض، وقال أبو عبيدة " جعله دكا أي مندكا، والدك والدكة مصدره، وناقة دكاء ذاهبة السنام والدك المستوي، وانشد للأغلب: هل غير عاد دك عادا فانهدم وقال أبو الحسن: لما قال " جعله دكا " فكأنه قال: دكه أي أراد جعله ذا دك، ويقال: دكاء جعلوها مثل الناقة الدكاء التي لا سنام لها. قال أبو علي الفارسي: المضاف محذوف - على تقدير في قول أبي الحسن، وفي التنزيل " وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة " (1) وقال " كلا إذا دكت الأرض دكا دكا " (2) وقال الرماني: معنى دكا مستويا بالأرض، يقال: دكه يدكه دكا إذا سحقه سحقا، ومنه الدكة. واندك السنام إذا لصق بالظهر. وقال الزجاج: دكا يعني مدقوقا مع الأرض، والدكاء والدكاوات الروابي التي مع الأرض ناشزة عنها لا تبلغ أن تكون جبلا. وقيل: إيه سباخ في الأرض - في قول الحسن وسفيان وأبي بكر الهذلي. وقال ابن عباس: صار ترابا، وقال حميد:
يدك أركان الجبال هزمه * يخطر بالبيض الرقال بهمه (3)
وقيل في معنى قراءة من قرأها ممدودة قولان:
أحدهما: انه شبه الجبل بالناقة التي لا سنام لها، فيقال لها: دكاء فكأنه قال فجعله مثل دكاء.
الثاني: فجعله أرضا دكاء. أخبر الله تعالى في هذه الآية أن موسى (ع) لما جاء إلى ميقات ربه وهو الموضع الذي وقته له، وكلمه الله تعالى فيه سأل الله تعالى أن يريه لينظر إليه. واختلف المفسرون في وجه مسألة موسى (ع) ذلك مع أن الرؤية بالحاسة لا تجوز عليه تعالى على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه سأل الرؤية لقومه حين، قالوا له " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " (4) بدلالة قوله " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " (5). فإن قيل على هذا ينبغي أن يجوزوا أن يسأل الله تعالى هل هو جسم أم لا أو يسأله الصعود والنزول، وغير ذلك مما لا يجوز عليه ؟! قلنا عنه جوابان:
أحدهما: أنه يجوز ذلك إذا علم أن في ورود الجواب من جهة الله مصلحة، وأنه أقرب إلى زوال الشبهة عن القوم بأن ذلك لا يجوز عليه تعالى، كما جاز ذلك في مسألة الرؤية. وقال الجبائي: إنهم سألوا الله تعالى قبل ذلك هل يجوز عليه تعالى النوم أم لا؟وقالوا له: سل الله أن يبين لنا ذلك، فسأل الله تعالى ذلك، فأمره بأن يأخذ قد حين يملا أحدهما ماء، والاخر دهنا، ففعل وألقى عليه النعاس، فضرب أحدهما على الاخر فانكسرا، فأوحى الله تعالى إليه أن لو جاز عليه تعالى النوم لاضطراب أمر العالم، كما اضطرب القدحان في مدة حتى تكسرا.
الثاني: عن هذا السؤال أنه إنما يجوز أن يسأل الله ما يمكن أن يعلم صحته بالسمع، وما يكون الشك فيه لا يمنع من العلم بصحة السمع، وإنما يمنع من ذلك سؤال الرؤية التي تقتضي الجسمية والتشبيه، لأن الشك في الرؤية التي لا تقتصي التشبيه مثل الشك في رؤية الضمائر والاعتقادات، وما لا يجوز عليه الرؤية، وليس كذلك الشك في كونه جسما أو ما يتبع كونه جسما من الصعود والنزول، لان مع الشك في كونه جسما، لا يصح العلم بصحة السمع من حيث أن الجسم لا يجوز أن يكون غنيا ولا عالما بجميع المعلومات، وكلاهما لابد فيه من العلم بصحة السمع، فلذلك جاز أن يسأل الرؤية التي لا توجب التشبيه ولم يجز أن يسأل كونه جسما، وما أشبهه.
والجواب الثاني: في أصل المسألة: أنه سأل العلم الضروري الذي يحصل في الآخرة، ولا يكون في الدنيا ليزول عنه الخواطر والشبهات، والرؤية تكون بمعنى العلم، كما تكون الادراك بالبصر، كما قال " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " (6) وأمثاله. وللأنبياء أن يسألوا ما يزول عنهم الوساوس والخواطر، كما سأل إبراهيم ربه " فقال رب أرني كيف تحيي الموتى " (7) غير أنه سأل ما يطمئن قلبه إلى ذلك وتزول عنه الخواطر والوساوس، فبين الله تعالى له أن ذلك لا يكون في الدنيا.
الثالث: أنه سأل آية من آيات الساعة التي يعلم معها العلم الذي لا يختلج فيه الشك كما يعلم في الآخرة وهذا قريب من الثاني. وقال الحسن والربيع والسدي: إنه سأل الرؤية بالبصر على غير وجه التشبيه. وقوله " لن تراني " جواب من الله تعالى لموسى أنه لا يراه على الوجه الذي سأله، وذلك دليل على أنه لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، لان (لن) تنفي على وجه التأييد، كما قال " ولن يتمنوه أبدا " (8) وهذا إنما يمكن أن يعتمده من قال بالجواب الأول، فأما من قال: انه سأل العلم الضروري أو علما من أعلام الساعة لا يمكنه أن يعتمده، لان ذلك يحصل في الآخرة، فيجري ذلك مجرى اختصاص الرؤية بالبصر على مذهب المخالف بحال الدنيا. وقوله تعالى " فإن استقر مكانه فسوف تراني " معناه إن استقر الجبل في حال ما جعله دكا متقطعا فسوف تراني، فلما كان ذلك محالا لان الشئ لا يكون متحركا ساكنا في حال واحدة، كانت الرؤية المتعلقة بذلك محالة، لأنه لا يعلق بالمحال إلا المحال. وقوله " فلما تجلى ربه للجبل " معناه ظهر بآياته التي أحدثها في الجبل لحاضري الجبل بأن " جعله دكا ". وقيل: إن الله تعالى أبرز من ملكوته ما تدكدك به إذ في حكمه أن الدنيا لا تقوم لما يبرز من الملكوت الذي في السماوات، كما قيل: إنه ابرز الخنصر من العرش، ويجوز أن يكون المراد " فلما تجلى ربه " لأهل الجبل، كما قال " واسأل القرية " (9) والتجلي هو الظهور، ويكون ذلك تارة بالرؤية، وأخرى بالدلالة، قال الشاعر:
تجلى لنا بالمشرفية والقنا * وقد كان عن وقع الأسنة نائيا
وإنما أراد الشاعر أن تدبيره دل عليه حتى علم أنه المدبر لذلك وأن تدبيره صواب، فقال تجلى أي علم، ولم ير بالابصار، ولا أدرك بالحواس، لأنه كان عن وقع الأسنة نائيا، ولكن استدل عليه بحسن تدبيره. وقال قوم: معناه فلما تجلى بالجبل لموسى قالوا: وحروف الصفات تتعاقب فيكون (اللام) بمعنى (الباء). وقال قوم: لو أراد موسى الرؤية بالبصر لقال أرينك أو أرني نفسك، ولا يجوز غير ذلك في اللغة. وقوله " وخر موسى صعقا " قيل في معنى ذلك قولان:
أحدهما: قال ابن عباس والحسن وابن زيد وأبو علي الجبائي: إنه وقع مغشيا عليه من غير أن يكون قد مات بدلالة قوله " فلما أفاق " ولا يقال للميت إذا عاش أفاق، وإنما يقال: عاش أو حيي
وقال قتادة: معناه مات. وقوله " قال سبحانك تبت إليك " قيل في معنى توبته ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه تاب، لأنه سأل قبل أن يؤذن له في المسألة، وليس للأنبياء ذلك.
الثاني: أنه تاب من صغيرة ذكرها.
الثالث: أنه قال ذلك على وجه الانقطاع إليه والرجوع إلى طاعته، وإن كان لم يعص، وهذا هو المعتمد عندنا دون الأولين، على أنه يقال لمن جوز الرؤية على الله تعالى إذا كان موسى (ع) إنما سأل ما يجوز عليه فمن أي شئ تاب؟فلابد لهم من مثل ما قلناه من الأجوبة. فإن قيل: كيف يجوز أن يكون تجويز الرؤية صغيرا مع أنه جهل بالله على مذهب من قال إنه كان ذلك صغيرة ؟! قيل: لأنه إذا لم تكن الرؤية المطلوبة على وجه التشبيه جرى مجرى تجويزه أن تكون هذه الحركة من مقدورات الله في أنه لا يخرجه من أن يكون عارفا به تعالى، وإنما شك في الرؤية والحركة. وقوله " وأنا أول المؤمنين " قيل في معناه قولان:
أحدهما: قال الجبائي: أنا أول المؤمنين بأنه لا يراك شئ من خلقك فأنا أول المؤمنين من قومي باستعظام سؤال الرؤية.
الثاني: قال مجاهد: وأنا أول المؤمنين من بني إسرائيل.
1- سورة 69 الحاقة آية 14.
2- سورة 89 الفجر آية 21.
3- تفسير الطبري 13 / 100.
4- سورة 2 البقرة آية 55.
5- سورة 7 الأعراف آية 154.
6- سورة 105 الفيل آية 1.
7- سورة 2 البقرة آية 260.
8- سورة 62 الجمعة آية 6.
9- سورة 12 يوسف آية 82.