الآيات 115-116
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ، قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾
هذا حكاية قول السحرة أنهم قالوا لموسى اختر أحد شيئين إما أن تلقي أنت عصاك أو نحن نلقي عصينا، وإنما دخلت (أن) في قوله " إما أن تلقي " ولم تدخل في " إما يعذبهم وإما يتوب عليهم " (1) لان فيه معنى الامر كأنهم قالوا: اختر إما أن تلقي أي إما القاؤك وإما القاؤنا، ومثله " اما أن تعذب واما أن تتخذ فيهم حسنا " (2) فموضع (ان) نصب، ويجوز أيضا أن يكون التقدير إما إلقاؤك مبدوء به وإما القاؤنا، ويجوز أن تقول: يا زيد اما أن تقوم أو تقعد، ولا يجوز أن تقول يا زيد ان تقوم أو تقعد، لان (إما) يبتدأ بالمعنى فيها أي بمعنى التخيير، فلذلك تدل على معنى اختر، وليس كذا (أو) وقد يقع موقع (اما) وليس بجيد، كما قال الشاعر:
فقلت لهن امشين إما نلاقه * كما قال أو تشفى النفوس فنعذرا (3)
وقال ذو الرمة:
فكيف بنفس كلما قلت أشرفت * على البرء من حوصاء هيض اندمالها
تهاض بدار قد تقادم عهدها * واما بأموات ألم خيالها (4)
على أن يلقي أحدنا فيبطل ما أتى به الاخر. وقوله " ألقوا " حكاية عن قول موسى (ع) للسحرة (ألقوا) أنتم " فلما ألقوا سحروا أعين الناس " قال البلخي: معناه غشوا أعين الناس، وقال: السحر هو الخفة، والافراط فيها حتى تخيل بها الأشياء عن الحقيقة والاحتيال بما يخفى على كثير من الناس كتغييرهم الطرجهالة والحيلة فيها ان يجعل (الطر جهالة) طاقين ويرقق بغاية الترقيق، ويجعل بين الطبقتين زيبق، فإذا وضعت في الشمس حمي الزيبق فسار بالطر جهالة، لان من طبع الزيبق إذا حمي ان يتحرك ويفارق مكانه. وقال قوم: معناه خيلوا إلى أعين الناس بما فعلوه من لتخييل والخدع أنها تسعى، كما قال تعالى " يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (5) " وقال الرماني: معنى سحر العين قلبها عن صحة إدراكها بما يتخيل من الأمور المموهة لها بلطف الحيلة التي تجري مجرى الخفة والشعبذة مما لا يرجع إلى حقيقة، والمحدث لهذا التخيل هو الله تعالى عندما أظهروا من تلك المخاريق وإنما نسب إليهم لأنهم لو لم يعرضوا بما يعملونه لم يقع، كما لو جعل أحد طفلا تحت البرد، فمات، فهو القاتل له في الحكم، والله تعالى أماته، وإنما جاز من موسى (ع) أن يأمرهم بالقاء السحر وهو كفر لامرين:
أحدهما: إن كنتم محقين فالقوا.
الثاني: ألقوا على ما يصح ويجوز، لا على ما يفسد ويستحيل. وقال الجبائي: هذا على وجه الزجر لهم والتهديد، وليس بأمر. وقوله " فلما ألقوا سحروا أعين الناس " والفرق بين (لما) و (إذا) هو الفرق بين (لو) و (أن) في أن أحدهما للماضي والاخر للمستقبل، وكل هذه الأربعة تعليق أول بثان، الا ان (لو) على طريقة الشك، و (لما) يقين. وقوله " واسترهبوهم " معناه طلبوا منهم الرهبة، وهو خلاف الارهاب، لأنه جعل الرهبة للذي يرهب، والعظيم ما يملا الصدر بهوله، ووصف السحر بأنه عظيم لبعد مرام الحيلة فيه، وشدة التمويه به، فهو لذلك عظيم الشأن عند من يراه من الناس، ولأنه على ما ذكرناه من الخلاف في عدة السحرة من سبعين ألفا أو ثمانين ألفا كان مع كل واحد حبل وعصا، فلما ألقوها وخيل إلى الناس أنها تسعى استعظموا ذلك وخافوه، فلذلك وصفه الله بأنه سحر عظيم. و (إما) إذا كانت للتخيير، فأهل الحجاز ومن جاورهم من قيس وبعض تميم يكسرونها وينصبها قيس وأسد و (أما) إذا كانت منصوبة فهي التي يقتضي أن يكون في جوابها الفاء.
1- سورة 9 التوبة آية 107.
2- سورة 18 الكهف آية 87.
3- معاني القرآن للفراء 1 / 390.
4- هذان البيتان للفرزدق. ديوانه 2 / 618 ومجاز القرآن 1 / 390. وهما مطلع قصيدة له يمدح بها ابن عبد الملك، ويهجو الحجاج بن يوسف. وقد تكون نسبتهما الذي الرمة - هنا - خطأ من الناسخ. موضع (اما) موضع (أو). والالقاء ارسال المعتمد إلى جهة السفل، ومثله الطرح، وضده الامساك. وقول القائل: إلق علي مسألة إلى هذا يرجع، وإنما قال " واما أن نكون نحن الملقين " ولم يقل واما أن نلقي، لأنه ليس المعنى على ليكن القاء أحدنا فقط، فيجئ على التقابل، وإنما هو.
5- سورة 20 طه آية 66.