الآيات 72-78
قوله تعالى: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ، فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ، وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ، وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ﴾
قال ابن عباس معنى (لعمرك) وحياتك. وقال غيره: هو مدة حياته وبقائه حيا بمعنى لعمرك ومدة بقاءك حيا. والعمر والعمر واحد، غير أنه لا يجوز في القسم إلا بالفتح، قال أبو عبيدة: ارتفع لعمرك وهي يمين، والايمان تكون خفضا إذا كانت الواو في أوائلها، ولو كانت وعمرك لكانت خفضا، ولذلك قولهم: لحق لقد فعلت ذلك، وإنما صارت هذه الايمان رفعا بدخول اللام في أولها، لأنها أشبهت لام التأكيد، فأما قولهم: عمرك الله أفعل كذا، فإنهم ينصبون (عمرك) وكذلك ينصبون (الله لأفعلن). قال المبرد: لا أفتحها يمينا، بل هي دعاء ومعناه اسأل الله لعمرك. قال المبرد: والتقدير: لعمرك ما اقسم به، ومثله: علي عهد الله لأفعلن، فعهد الله رفع بالابتداء، وفيه معنى القسم، وكذلك (لاها الله ذا). قال الخليل: (ذا) معناه ما أقسم عليه. وحكي عن الأخفش أنه قال: (ذا) ما اقسم به، لأنه قد ذكر الله، وكلاهما حسن جميل. وقوله " انهم لفي سكرتهم يعمهون " فالسكرة غمور السهو للنفس وهؤلاء في سكرة الجهل " يعمهون " اي يتحيرون، ولا يبصرون طريق الرشد. وقوله " فأخذتهم الصيحة مشرقين " فالاخذ فعل يصير به الشئ في جهة الفاعل، فالصيحة كأنها أخذتهم بما صاروا في قبضتها حتى هلكوا عن آخرهم. والصيحة صوت يخرج من الفم بشدة ويقال: إن الملك صاح بهم صيحة أهلكتهم. ويجوز أن يكون جاء صوت عظيم من فعل الله كالصيحة. والاشراق ضياء الشمس بالنهار شرقت الشمس تشرق شروقا إذا طلعت، وأشرقت إشراقا إذا أضاءت وصفت. ومعنى (مشرقين) داخلين في الاشراق. وقوله " فجعلنا عاليها سافلها " والجعل حصول الشئ على وجه لم يكن بقادر عليه لولا الجعل، ومثله التصيير، والمعنى: انه قلب القرية فجعل أسفلها أعلاها وأعلاها أسفلها " وأمطرنا عليهم حجارة " اي أرسلنا الحجارة، كما يرسل المطر " من سجيل " وقيل في معناه قولان:
أحدهما: انها من طين وهو معرب. وقيل هو من السجل، لأنه كان عليها أمثال الخواتيم بدلالة قوله " حجارة من طين مسومة عند ربك " (1).
والثاني: انها حجارة معدة عند الله تعالى للمجرمين، وأصله (سجين) فأبدلت النون لاما. فان قيل ما معنى أمطار الحجارة عليهم مع انقلاب مدينتهم؟قلنا فيه قولان:
أحدهما: أنه أمطرت الحجارة أولا ثم انقلبت بهم المدينة.
الثاني: ان الحجارة أخذت قوما منهم خرجوا من المدينة بحوائجهم قبل الفجر - في قول الحسن - ثم اخبر تعالى ان فيما حكاه آيات ودلالات للمتوسمين. قال مجاهد يعنى المتفرسين. وقال قتادة: يعنى المعتبرين. وقال ابن زيد: المتفكرين. وقال الضحاك: الناظرين. وقال أبو عبيدة: المتبصرين. والمتوسم الناظر في السمة الدالة. وقوله " انها لبسبيل مقيم " معناه إن الاعتبار بها ممكن لان الآيات التي يستدل بها مقيمة ثابتة بها وهي مدينة سدوم، والهاء كناية عن المدينة التي أهلكها الله، وهي مؤنثة. ثم قال إن ان فيما قص من حكاية هذا المدينة " لآية للمؤمنين " ودلالة لهم. وقيل في وجه إضافة الآية إلى المؤمنين قولان:
أحدهما: انه يصلح ان يستدل بها.
الآخر: انه يفعل الاستدلال بها. وتضاف الآية إلى الكافر بشرط واحد، وهو أنه يمكنه الاستدلال بها. وقوله " وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين " فالأيكة الشجرة في قول الحسن والجمع الأيك كشجرة وشجر. وقيل: الأيكة الشجر الملتف قال أمية:
كبكاء الحمام على فروع * الأيك في الطير الجرائح
وقيل الأيكة الغيضة وأصحاب الأيكة هم أهل الشجر الذين أرسل إليهم شعيب (ع) وأرسل إلى أهل مدين، فأهلكوا بالصيحة، وأصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة التي احترقوا بنارها. وفي قول قتادة، فأخبر الله تعالى انه أهلك أصحاب الأيكة بظلمهم وعتوهم وكفرهم بآيات الله وجحدهم نبوة نبيه وقال ابن خالويه: الأيكة اسم القرية، والأيكة اسم البلد، كما أن مكة اسم البلد، ومكة اسم البيت. ولم يصرفوا الأيكة للتعريف والتأنيث، ويجوز ان يكونوا تركوا صرفه، لأنه معدول عن الألف واللام، كما أن شجر معدول عن الشجر، فلذلك لم يصرفوه.
1- سورة الذاريات آية 33 - 34.