الآية 1-2

مكية في قول قتادة ومجاهد. وهي تسع وتسعون آية بلا خلاف.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى: ﴿الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ، رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ﴾

القراءة:

قرأ أهل المدينة وعاصم " ربما " بالتخفيف. الباقون بالتشديد. وروي عن أبي عمرو: الوجهان. قال أبو علي أنشد أبو زيد:

ماوي يا ربتما غارة * شعواء كاللذعة بالميسم (1)

قال الأزهري: الماوي الرحمة، وأنشد أيضا أبو زيد:

يا صاحبا ربه إنسان حسن * يسأل عنك اليوم ارتسأل عن (2)

وقال قطرب، والسكري: ربما، وربما، وربتما، ورب، رب: ست لغات، قال سيبويه (رب) حرف وتلحقها (ما) على وجهين:

أحدهما: أن تكون نكرة بمعنى شئ كقوله:

ربما تجزع النفوس من الامر * له فرجة كحل العقال (3)

ف? (ما) في هذا البيت اسم، لما يقدر من عود الذكر إليه من الصفة. والمعنى: رب شئ، تكرهه النفوس، وإذا عاد إليه الهاء كان اسما، ولم يجز أن يكون حرفا. والضرب الاخر ان تدخل (ما) كافة نحو الآية، ونحو قول الشاعر:

ربما أوفيت في علم * يرفعن ثوبي شمالات (4)

والنحويون يسمون (ما) هذه كافة يريدون: أنها بدخولها كفت الحرف عن العمل الذي كان هيأها لدخولها على ما لم تكن تدخل عليه، ألا ترى ان (رب) إنما تدخل على الاسم المفرد، نحو رب رجل يقول ذلك، وربه رجل يقول، ولا تدخل على الفعل، فلما دخلت (ما) عليها هيأتها للدخول على الفعل، كما قال " ربما يود الذين كفروا " فوقع الفعل بعدها - في الآية - وهو على لفظ المضارع، ووقع في قوله (ربما أوفيت في علم) على لفظ الماضي، وهكذا ينبغي في القياس لأنها تدل على أمر قد وقع ومضى، وإنما وقع - في الآية - على لفظ المضارع، لأنه حكاية لحال آتية كما أن قوله " وإن ربك ليحكم بينهم " (5) حكاية الحال آتية أيضا، ومن حكاية الحال قول القائل:

جارية في رمضان الماضي * تقطع الحديث بالايماض (6)

ومن زعم أن الآية على اضمار (كان) وتقديره ربما كان يود، فقد خرج عن قول سيبويه، لأنهم لا يضمرون على مذهبه (كان) في قول القائل: عبد الله المقتول اي كن عبد الله المقتول. واما اضمار (كان) بعد إن خيرا فخيرا، فإنما جاز ذلك، لاقتضاء الحرف له، فصار اقتضاء الحرف له كذكره، فاما ما أنشده ابن حبيب، فيهان ابن مسكين:

لقد رزيت كعب بن عوف وربما * فتى لم يكن يرضى بشئ يضيمها (7)

فان قوله (فتى) يحتمل ضروبا:

أحدها: أن يكون لما جرى ذكر (رزيت) استغنى بجري ذكره عن اعادته، فكأنه قال: ربما رزيت فتى، فانتصب فتى برزيت المضمرة، كقوله " الآن وقد عصيت " (8) فاستغنى بذكر آمنت المعلوم عن اظهاره بعد، ويجوز أن يكون انتصب ب? (رزيت) هذه المذكورة، كأنه قال: لقد رزيت كعب بن عوف فتى وربما لم يكن يرضي اي رزيت فتى لم يكن يضام، ويكون هذا الفصل وهو أجنبي بمنزله قوله: أبو أمه حي أبوه يقاربه (9) ويجوز أن يكون رفعا بفعل مضمر كأنه قال ربما لم يرضى فتى كقوله: وقلما وصال على طول الصدود يدوم (10) ويجوز أن تكون (ما) نكرة بمنزلة شئ ويكون فتى وصفا لها، كأنه قال: رب شئ فتى لم يكن كذا، فهذه الأوجه فيها ممكنة، ويجوز في الآية أن تكون (ما) بمنزلة شئ و (ود) صفة له، لان (ما) لعمومها تقع على كل شئ فيجوز ان يعنى بها الود كأنه رب ود يوده الذين كفروا، ويكون يود في هذا الوجه حكاية حال لأنه لم يكن كقوله " ارجعنا نعمل صالحا " (11) وقوله " يا ليتنا نرد ولا نكذب " (12) واما من خفف، فلانه حرف مضاعف والحروف المضاعفة قد تحذف، وان لم يحذف غير المضاعف، فمن المضاعف الذي حذف (ان، وان، ولكن) قد حذف كل واحد من الحروف، وليس كل المضاعف يحذف، لأني لا أعلم الحذف في (ثم). قال الهذلي:

ازهير إن يشب القذال فإنني * رب هيضل لجب لففت بهيضل (13)

واما دخول التاء في (ربتما) فان من الحروف ما يدخل عليه حرف التأنيث نحو (ثم، وثمت، ولا، ولات) قال الشاعر:

ثمت لا يحزونني غير ذالكم * ولكن سيحزنني المليك فيعقبا (14)

فلذلك الحق التاء في قوله " ربتما " وقال المبرد: قال الكسائي: العرب لا تكاد توقع (رب) على أمر مستقبل، وهذا قليل في كلامهم، وإنما المعنى عندهم ان يوقعوها على الماضي، كقولهم: ربما فعلت ذلك، وربما جاءني فلان. وإنما جاء هذا في القرآن، على ما جاء في التفسير، ان ذلك يكون يوم القيامة. وإنما جاز هذا، لان كل شئ ء من أمر الله خاصة فإنه وإن لم يكن وقع بعد، فهو كالماضي الذي قد كان، لان وعده آت لا محالة، وعلى هذا عامة القرآن، نحو قوله " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض " (15) وقوله " وسيق الذين اتقوا " (16) " وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد " (17) ومع هذا يحسن ان يقال - في الكلام - إذا رأيت الرجل يفعل ما يشاء، تخاف عليه، ربما يندم، وربما يتمنى ان لا تكون فعلت، قال: وهذا كلام عربي حسن، ومثله قال الفراء والمبرد وغيرهم. فان قيل لم قال " ربما يود الذين كفروا " ورب للتقليل؟قلنا عنه جوابان:

أحدهما: انه شغلهم العذاب عن تمني ذلك الا في القليل.

والثاني: انه أبلغ في التهديد كما تقول: ربما ندمت على هذا، وأنت تعلم أنه يندم ندما طويلا، أي يكفيك قليل الندم، فكيف كثيره. فان قيل: لم قال " تلك آيات الكتاب وقران " والكتاب هو القرآن؟ولم أضاف الآيات إلى الكتاب، وهي القرآن؟وهل هذا إلا إضافة الشئ إلى نفسه ؟! قلنا: إنما وصفه بالكتاب والقرآن، لاختلاف اللفظين، وما فيهما من الفائدتين وإن كانا لموصوف واحد، لان وصفه بالكتاب يفيد انه مما يكتب ويدون، والقرآن يفيد أنه مما يؤلف ويجمع بعض حروفه إلى بعض قال الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم (18)

وقال مجاهد وقتادة: المراد بالكتاب: ما كان قبل القرآن من التوراة والإنجيل، فعلى هذا سقط السؤال: فأما إضافة الشئ إلى نفسه، فقد بينا الوجه فيما مضى فيه، وانه يجري مجرى قولهم مسجد الجامع وصلاة الظهر ويوم الجمعة. وقوله تعالى " لحق اليقين " (19) وهو مستعمل مشهور وبينا الوجه فيه، ووصف القرآن بأنه مبين لأنه يظهر المعنى للنفس، والبيان ظهور المعنى للنفس بما يميزه من غيره، لان معنى إبانته منه فصل منه، فإذا ظهر النقيضان في معنى الصفة فقد بانت وفهمت. و (الود) التمني يقال: وددته إذا تمنيته، ووددته إذا أحببته أود فهيما جميعا ودا. وقال الحسن: إذا رأى المشركون المؤمنين دخلوا الجنة تمنوا أنهم كانوا مسلمين، وقال مجاهد: إذا رأى المشركون المسلمين يغفر لهم ويخرجون من النار يودون لو كانوا مسلمين.


1- مجمع البيان 3: 326 واللسان (ربب)، (ما).

2- مجمع البيان 3: 227.

3- قائله أمية بن أبي الصلت. اللسان " فرج " وروايته " تكره " بدل " تجزع ".

4- قائله جذيمة الأبرش. اللسان " شمل ". وشمالات: جمع شمال، ويقصد هنا ريح الشمال.

5- سورة النحل 16 اية 124.

6- اللسان " رمض " " خصص " ومجمع البيان 3: 327.

7- مجمع البيان 3: 327.

8- سورة يونس اية 91.

9- البيت مشهور يستشهدون به على التعقيد المعنوي في كتب المعاني والبيان وتمامه: وما مثله في الناس إلا مملكا * أبو أمه حي أبوه يقاربه.

10- اللسان " طول " وتمام البيت: صددت فأطولت الصدود وقلما * وصال على طول الصدود يدوم.

11- ألم السجدة 32 اية 12.

12- سورة الأنعام 6 آية 27.

13- مجمع البيان 3: 328 واللسان (هضل) نسبه إلى أبي كبير.

14- مجمع البيان 3: 328.

15- سورة الزمر - 39 - آية 68.

16- سورة الزمر آية 73.

17- سورة ق 50 آية 21.

18- مر هذا البيت في 2: 98.

19- سورة الحاقة 69 آية 51.