الآية 89
قوله تعالى: ﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾
في هذه الآية اخبار من الله عما قال شعيب لقومه من أنه قد افترى هو ومن آمن به على الله كذبا إن عاد في ملتهم بأن يحللوا ما يحللونه ويحرموا ما يحرمونه وينسبونه إلى الله بعد إذ نجاهم الله منها. والافتراء الكذب، ومنه الافتعال، والاختلاق وهو القطع بخبر مخبره لا على ما هو به، مشتقا من فري الأديم تقول فريت الأديم أفريه فريا. والملة الديانة التي تجتمع على العمل بها فرقة عظيمة. والأصل فيه تكرر الامر من قولهم طريق مليل إذا تكرر سلوكه حتى توطأ، ومنه الملل وهو تكرر الشئ على النفس حتى تضجر. والملة الرماد الحار يدفن فيه الخبز حتى ينضج لتكرر الحمي عليها، ومنه المليلة من الحمى. والملة لتكرر العمل فيها على ما تأتي به الشريعة. وقوله " بعد إذ نجانا الله منها " بإقامة الدليل والحجج على بطلانها، وعلمنا بذلك وانتهائنا عنها. وقوله " ربنا افتح " قال ابن عباس: ما كنت أدري معنى قوله " ربنا إفتح " حتى سمعت بنت سيف بن ذي يزن تقول: تعال حتى أفاتحك يعني أقاضيك. وقوله " وما يكون لنا أن نعوذ فيها إلا أن يشاء الله ربنا " إخبار عن قول شعيب لهم أنه ليس له أن يعود في ملتهم، ويرجع فيها إلا بعد مشيئة الله ذلك. وقيل في معنى هذه المشيئة مع حصول العلم بأنه لا يشاء تعالى عبادة الأصنام والأوثان ثلاثة أقوال:
أحدها: أن في ملتهم أشياء كان يجوز أن يتعبد الله بها، فلو شاءها منهم لوجب عليهم الرجوع فيها.
الثاني: أنه إذا فعل ما شاء الله كان ذلك طاعة لله تعالى.
الثالث: أنه علق ما لا يكون بما علم أنه لا يكون على وجه التبعيد كما قال الشاعر:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي * وصار القار كاللبن الحليب (1)
وكما قال تعالى " حتى يلج الجمل في سم الخياط " (2) وجه ذلك - ههنا - أنه كما لا يشاء الله عبادة الأصنام والقبائح - لان ذلك لا يليق بحكمته - فكذلك لا أعود في ملتكم. وقال قوم: فيه وجه رابع، وهو أن الهاء في قوله " فيها " راجعة إلى القرية، وكأنه قال: وما يكون لنا أن نعود في قريتكم غانمين لكم ظاهرين عليكم بعد إذ نجانا الله منها بخروجنا منها سالمين إلا أن يشاء الله أن ينصرنا عليكم ويشاء منا الرجوع فيها. وقوله " وسع ربنا كل شئ علما " نصب (علما) على التمييز. وقيل في وجه اتصال ذلك بما قبله قولان:
أحدهما: أن الملة إنما يتعبد بها على حسب ما في معلومه من مصلحة العباد بها، فهو تعالى لا يخفى عليه ذلك.
الثاني: أنه عالم بما يكون منا من عود أو ترك دوننا. ثم حكى عن شعيب أنه قال لهم " على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق " سؤال من شعيب ورغبة منه إليه تعالى أن يحكم بينه وبين قومه بالحق، والفتح القضاء. ومعنى افتح إقض - في قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي - والحاكم الفاتح والفتاح، وفاتحته في كذا قاضيته. وإنما قيل ذلك، لأنه يفتح باب العلم الذي انغلق على غيره. وقوله " بالحق " فيه وجهان:
أحدهما: سؤال الله ما يجوز عليه، كما قال في موضع آخر " رب احكم بالحق " (3).
والآخر: ما ينكشف به لمخالفينا أنا على الحق من انزال العذاب عليهم، وقال الفراء: أهل عمان يسمون الحاكم الفتاح، قال الشاعر:
ألا أبلغ بني عصم رسولا * فأني عن فتاحتكم غني (4)
أي قضائكم وحكمكم، وقال الجبائي: معنى " افتح بيننا وبين قومنا " انزل بهم ما يستحقون من العقوبة لكفرهم بالله وظلمهم المؤمنين. وفي الآية دلالة على بطلان مذهب المجبرة، لأنه قال " وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله " فعلم أن لهم الرجوع فيها إذا شاء الله، فإذا لم يشأ لم يكن ذلك، فيجب على هذا إن كان الله يريد الكفر أن يكون للكافر الرجوع في الكفر، وهذا لا يقوله أحد، فبطل ما قالوه. على أن الظاهر من معنى الملة هو ما يعلم بالشرع، وذلك يجوز أن ينسخه الله فيريد منهم الرجوع فيه، وليس لاحد أن يقول إن قوله " بعد إذ نجانا الله منها " لا يليق بما قلتم وإنما يليق بما قالوه، وذلك أن قوله " بعد إذ نجانا الله منها " معناه على هذا القول أزاله عنا ونسخه عنا، فان شاء أن يعيدنا ثانيا جاز لنا الرجوع فيها.
1- مر في 4 / 430.
2- آية 39 من هذه السورة.
3- سورة 21 الأنبياء آية 112.
4- تفسير الطبري 12 / 564 وقد مر في 1 / 315، 345.