الآيات 45-46
قوله تعالى: ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ، وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾
القراءة:
قرأ الكسائي وحده " لتزول " بفتح اللام الأولى، وضم الثانية. وروي ذلك عن علي (ع). الباقون بكسر اللام الأولى وفتح الثانية. قال أبو علي: من كسر اللام الأولى وفتح الثانية جعل (إن) بمعنى (ما) والتقدير وما كان مكرهم لتزول، ومثل ذلك قوله " إن الكافرون إلا في غرور (1) ". ومعناه ما الكافرون، ومعنى الآية " وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم " اي جزاء مكرهم، فحذف المضاف كما حذف من قوله " ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا، وهو واقع بهم (2) " اي جزاؤه، والمعنى قد عرف الله مكرهم، فهو يجازيهم عليه وما كان مكرهم لتزول منه الجبال. و (الجبال) كأنه أراد بها القرآن وأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأعلامه ودلالاته أي ما كان ليزول منه ما هو مثل الجبال في امتناعه ممن أراد إزالته. ومن قرأ بفتح اللام الأولى وضم الثانية جعل (ان) هي المخففة من الثقيلة على تعظيم أمر مكرهم، وهو في تعظيم مكرهم، كما قال في موضع آخر " ومكروا مكرا كبارا (3) " أي قد كان مكرهم من الكبر والعظم بحيث يكاد يزيل ما هو مثل الجبال في الامتناع، على من أراد إزالته ومثله في تعظيم الامر قول الشاعر:
ألم تر صدعا في السماء مبينا * على ابن لبينى الحارث بن هشام (4)
وقال آخر:
بكى حارث الجولان من موت ربه * وحوران منه خاشع متضائل (5)
وقال أوس:
ألم تكسف الشمس شمس النهار * مع النجم والقمر الواجب (6)
فهذا كله على تعظيم الامر وتفخيمه ويدل على أن الجبال يعني بها أمر النبي صلى الله عليه وسلم قوله بعد ذلك " فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله " اي بعد وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم في قوله " ليظهره على الدين كله " (7) وفي قوله " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون " (8) وقد استعمل لفظ الجبال في غير هذا في تعظيم الشئ وتفخيمه قال ابن مقبل:
إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى * لها شاعرا مثلي اطب واشعرا
وأكثر بيتا شاعرا ضربت به * بطون جبال الشعر حتى تيسرا (9)
يقول الله تعالى للكفار " أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم زوال " مما أنتم عليه من النعيم وأنتم " سكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم " بارتكاب المعاصي وكفران نعم الله، فأهلكهم الله " وضربنا لكم الأمثال " والمعنى ان مثلكم كمثلهم في الاهلاك إذا أقمتم على ما أقاموا عليه، من الفساد والتتابع في المعاصي " ومكروا مكرهم " يعني الكفار الذين ظلموا أنفسهم مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم واحتالوا له، ومكروا بالمؤمنين وخدعوهم " وعند الله " جزاء مكرهم، ولم يكن مكرهم ليبطل حجج القرآن وما معك من دلائل النبوة، فلا يبطل شئ منه، لأنه ثابت بالدليل والبرهان. وعلى القراءة الأولى ولو كان مكرهم يزيل الجبال من عظمه وشدته، لما أزال أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أثبت من الجبال. وروي عن علي (ع) وجماعة انهم قرؤوا " وان كاد مكرهم " من المقاربة. قال سعيد بن جبير وغيره: ان قوله " ومكروا مكرهم " نزلت في صاحب النسرين الذي أراد صعود السماء. وقال قوم: مكرهم كفرهم بالله وشركهم في عبادته.
1- سورة الملك (تبارك) 67 آية 20.
2- سورة الشورى 42 آية 22.
3- سورة نوح 71 آية 22.
4- مجمع البيان 3: 322.
5- قائله النابغة الذبياني. ديوانه (دار بيروت) 91 واللسان (حرث) وروايته الديوان (موحش) بدل (خاشع) وروايتهما معا (فقد) بدل (موت).
6- ديوانه (دار بيروت) 10 وروايته: ألم تكسف الشمس والبدر * والكواكب للجبل الواجب.
7- سورة التوبة آية 34 وسورة الفتح آية 28 وسورة الصف اية 9.
8- سورة آل عمران آية 12.
9- مجمع البيان 3: 322.