الآية 39
قوله تعالى: ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾
وجه اتصال هذه الآية بما تقدم هو أنه لما قال " لكل اجل كتاب " اقتضى ان يدخل فيه اعمال العباد، فبين ان الله يمحو ما يشاء، ويثبت، لئلا يتوهم ان المعصية مثبتة بعد التوبة، كما هي قبل التوبة. وقيل: ان مما يمحا ويثبت الناسخ والمنسوخ. وقيل يمحو ما يشاء، ويثبت، مما يثبته الملكان، لأنه لا يثبت الا الطاعات والمعاصي دون المباحات. وقيل معناه يمحو ما يشاء من معاصي من يريد التفضل عليه باسقاط عقابه، ويثبت معاصي من يزيد عقابه. والحسنة يثبتها الله قبل فعلها، بمعنى أنهم سيعملونها، فإذا عملوها أثبتها بأنهم عملوها، فلذلك أثبت في الحالين، والوجه في اثباته ما يكون فيه من المصلحة والاعتبار لمن يفكر فيه بأن ما يحدث، على كثرته وعظمه، قد أحصاه الله وكتبه، وذلك لا سبيل إليه الا من جهة علام الغيوب الذي يعلم ما يكون قبل أن يكون، واعتبار المشاهدة له من الملائكة إذا قابل ما يكون بما هو مكتوب، مع أنه أهول في الصدور، وأعظم في النفوس مما يتصور معه، حتى كان المفكر فيه مشاهد له. و (المحو) إذهاب أثر الكتابة محاه يمحوه محوا وإمحاء أيضا، وأمحا إمحاه وامتحا امتحاء. والاثبات الاخبار بوجود الشئ، ونقيضه النفي، وهو الاخبار بعدم الشئ. وقال ابن عباس ومجاهد: إنه تعالى لا يمحو الشقاء والسعادة، وهذا مطابق لقول أصحاب الوعيد. وقال عمر بن الخطاب، وابن مسعود: هما يمحيان مثل سائر الأشياء، وهذا مطباق لقول المرجئة من وجه. وقوله " وعنده أم الكتاب " معناه أصل الكتاب، لأنه يكتب أولا: سيكون كذا وكذا، لكل ما يكون، فإذا وقع كتب أنه قد كان ما قيل أنه سيكون. وقيل: أصل الكتاب، لان الكتب التي أنزلت على الانباء منه نسخت وقرأ ابن كثير وأبو عمرو، وعاصم و " يثبت " خفيفة. الباقون مشددة. قال أبو علي: المعنى يمحو الله ما يشاء ويثبته، فاستغني بتعدية الأول من الفعلين عن تعدية الثاني، كما قال " والحافظين فروجهم والحافظات (1) " وزعم سيبويه أن من العرب من يعمل الأول من الفعلين، ولا يعمل الثاني في شئ، كقولهم متى رأيت أو قلت زيدا منطلقا، قال الشاعر:
بأي كتاب أم بأية سنة * ترى حبهم عارا علي وتحسب (2)
فلم يعمل الثاني. وقالوا " أم الكتاب " هو الذكر المذكور في قوله " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر (3) " قال فحجة من شدد قوله " وأشد تثبيتا (4) وقرأ " ويثبت "، لان تثبيت مطاوع ثبت وحجة من قال بالتخفيف ما روي عن عائشة: أنه كان إذا صلى صلاة أثبتها، قال: وثابت مطاوع ثبت، كما أن يثبت مطاوع ثبت.
1- سورة 33 الأحزاب آية 35.
2- مر هذا البيت في 3 / 75.
3- سورة 21 الأنبياء آية 105.
4- سورة 4 النساء آية 66.