الآيات 12-13

قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾

اخبر الله تعالى انه هو الذي يرى الخلق البرق اي يجعلهم على صفة الرؤية بايجاد المرئي لهم وجعله إياهم على هذه الصفة التي يرون معها المرتيات من كونهم احياء ورفع الموانع والآفات منهم يقال: أراه يريه إراءة إذا جعله رائيا مثل أقامه يقيمه إقامة، وهو مشتق من الرؤية. والبرق ما ينقدح من السحاب من اللمعان كعمود النار وجمعه بروق وفيه معنى السرعة، يقال: امض في حاجتك كالبرق، والخوف انزعاج النفس بتوهم وقوع الضرر، خاف من كذا يخاف خوفا فهو خائف. والشئ مخوف. والطمع تقدير النفس لوقوع ما يتوهم من المحبوب. ومثله الرجاء والأمل. وقيل في معني قوله " خوفا وطمعا " قولان:

أحدهما: قال الحسن: خوفا من الصواعق التي تكون مع البرق وطمعا في الغيث الذي يزيل الجدب والقحط.

وقال قتادة: خوفا للمسافرين من أذاه وطمعا للمقيم في الرزق به، وهما منصوبان على أنه مفعول له. وقوله " وينشئ السحاب الثقال " والانشاء فعل الشئ من غير سبب مولد، ولذلك قيل النشأة الأولى، والنشأة الثانية. ومثله الاختراع والابتداع. والسحاب هو الغيم، وسمي به، لأنه ينسحب في السماء. وإذا قيل سحابة جمعت على سحائب كقولك غمامة وغمائم والسحاب جمع سحابة، والثقال جمع ثقيل مثل شريف وشراف وكريم وكرام. والثقل الاعتماد إلى جهة السفل، والمعنى إن السحاب ثقال بالماء، وهو قول مجاهد. وقوله " ويسبح الرعد بحمده " فالتسبيح تنزيه الله عز وجل عما لا يجوز عليه، والتنزيه له من كل صفة نقص تضاف إليه، واصله البراءة من الشئ قال الشاعر:

أقول لما جاءني فخره * سبحان من علقمة الفاخر (1)

اي براءة منه. و (الرعد) اصطكاك اجرام السحاب بقدرة الله تعالى وفيه أعظم العبرة وأوضح الدلالة، لأنه مع ثقله وهو له، وغلظ جرمه حتى يسمع مثل الرعد في عظمه معلق بقدرته تعالى لا يسقط إلى الأرض منه شئ ثم ينقشع كأنه لم يكن، ولا شي منه، وقد ذكرنا اختلاف المفسرين في الرعد في سورة البقرة (2). والحمد الوصف بالجميل من الاحسان على وجه التعظيم. وقيل في معنى قوله " ويسبح الرعد بحمده " ثلاثة أقوال:

أحدها: يسبح بما فيه من الدلالة على تعظيم الله ووجوب حمده، فكأنه هو المسبح لله عز وجل.

الثاني: انه يسبح بما فيه من الآية التي تدعو إلى تسبيح الله تعالى.

الثالث: ان الرعد ملك يزجر السحاب بالصوت الذي يسمع، وهو تسبيح الله بما يذكره من تعظيم الله. وقوله " والملائكة من خيفته، تقديره ويسبحه الملائكة من خيفته. والفرق بين الخيفة والخوف، ان الخيفة صفة للحال مثل قولك: هذه ركبة اي حال من الركوب الحسن، وكذلك هذه خفية شديدة. والخوف مصدره مطلق غير مضمن بالحال. وقوله " ويرسل الصواعق " وهي جمع صاعقة وهي نار لطيفة تسقط من السماء بحال هائلة من شدة الرعد وعظم الامر يقال: إنها قد تسقط على النخلة وكثير من الأشجار تحرقها، وعلى الحيوان فتقتله. وقوله " فيصيب بها " يعني بالصاعقة من يشاء من عباده. وقوله " وهم يجادلون في الله " يعني هؤلاء الجهال مع مشاهدتهم لهذه الآيات يخاصمون أهل التوحيد، ويحاولون فتلهم عن مذهبهم بجدالهم. والجدال فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج. وقوله " وهو شديد المحال " فالشدة قوة العقدة وفي بدن فلان شدة اي قوة كقوة العقدة، وشدة العقاب قوته يغلظ على النفس، كقوة العقدة، والمحال الاخذ بالعقاب، يقال ما حلت فلانا اما حله مماحلة ومحالا، ومحلت به أمحل محلا إذا فتلته إلى هلكه. والميم أصلية في المحل يقال محلني يا فلان اي قوني. وقال الجبائي: شديد الكيد للكفار، وسني المحل سني الهلاك بالقحط. واصله الفتل إلى الهلاك قال الأعشى:

فرع نبع يهتز في غصن المجد * غزير الندى شديد المحال (3)

وقيل فيمن نزلت هذه الآية قولان:

أحدهما: قال أنس بن مالك وعبد الرحمن صحار العبدي، ومجاهد: انها نزلت في رجل من الطغاة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يجادله، فقال يا محمد مم ربك أمن لؤلؤ أم ياقوت أم من ذهب أم من فضة؟فأرسل الله عليه صاعقة، فذهبت بقحفه.

وقال ابن جريج: نزلت في أربد، لما أراد هو وعامر بن الطفيل قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجفت يده على قائم سيفه، فرجع خائبا، فأرسل الله (عز وجل) عليه في طريقه صاعقة فأحرقته وابتلى عامرا بغدة كغدة البعير قتلته حتى قال عند موته: غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية. وفي ذلك يقول لبيد ابن ربيعة في أربد، وكان أخاه:

أخشى على أربد الحتوف ولا * أرهب نوء السماك والأسد

ففجعني البرق والصواعق * بالفارس يوم الكريهة النجد (4).


1- مر هذا البيت في 1: 134، 3: 81، 5: 241، 395.

2- في 1: 92.

3- ديوانه (دار بيروت) 166 وتفسير الطبري 13: 75 المحال: العقوبة.

4- تفسير الطبري (الطبعة الأولى) 13: 71، 74 ومجمع البيان 3: 283.