الآية 110

قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾

القراءة:

قرأ " كذبوا " خفيفة بضم الكاف أهل الكوفة. الباقون مشددة بضم الكاف. وقرأ عاصم وابن عامر " فنجي من نشاء " بنون واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء. الباقون بنونين على الاستقبال، وهي في المصحف بنون واحدة. من قرأ " كذبوا " خفيفة، فالمعنى إن الأمم ظنت ان الرسل كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم واهلاك أعدائهم، ومثله قراءة من قرأ، وإن كان شاذا " كذبوا " يعنى ان قومهم ظنوا ان الرسل كذبت فيما أخبرت به، وهو قول ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد والضحاك. ومن قرأ بالتشديد حمل الظن على العلم، والمعنى أيقن الرسل ان الأمم كذبوهم تكذيبا عمهم حتى لا يفلح أحد منهم، وهو قول الحسن وقتادة وعائشة قال الشاعر:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج * سراتهم في الفارسي المسرد (1)

معناه أيقنوا، فان قيل على الوجه الأول كيف يجوز ان يحمل الضمير على أنه للمرسل إليهم والذين تقدم ذكرهم الرسل دون المرسل إليهم، قيل إن ذلك لا يمتنع لان ذكر الرسل يدل على المرسل إليهم وقد قال الشاعر:

امنك البرق ارقبه فهاجا * فبت أخاله دهما خلاجا (2)

اي بت اخال الرعد صوت دهم، فاضمر الرعد ولم يجر له ذكر لدلالة البرق عليه وان قلت قد جرى لهم ذكر في قوله " أفلم يسيروا في الأرض فينظروا " فيكون الضمير للذين من قبلهم من مكذبي الرسل كان جيدا، ذكره أبو علي. ومن قرأ " فننجي " بنونين، فعلى انه حكاية حال، لان القصة كانت فيما مضى، فإنما حكى فعل الحال على ما كانت، كما قال " وإن ربك ليحكم بينهم " (3) حكاية الحال الكائنة، ومثله " وكلبهم باسط ذراعيه " (4) فلو لم يكن على الحال لم يعمل اسم الفاعل، لأنه إذا مضى اختص، وصار معهودا، فخرج بذلك من شبه الفعل. واما النون الثانية من (ننجي) فهم مخفاة مع الجيم، وكذلك النون مع جميع حروف الفم، لا تكون الا مخفاة، قال أبو عثمان المازني وتبيينها معها لحن. قال وللنون مع الحروف ثلاثة أحوال: الادغام، والاخفاء، والبيان، فهي تدغم مع ما يقارنها كما تدغم سائر المتقارنة. والاخفاء فيها مع حروف الفم التي لا تقارنها والبيان منها مع حروف الحلق، وحذف النون الثانية من الخط يشبه أن يكون لكراهة اجتماع المثلين فيه. ومن ذهب إلى أن الثانية مدغمة في الجيم، فقد غلط، لأنها ليست بمثل للجيم، ولا مقارنة له. ووجه قراءة عاصم انه اتى به على لفظ الماضي، لان القصة ماضية. وما رواه هبيرة عن عاصم بنونين، وفتح الياء، فهو غلط من الراوي، كما قال ابن مجاهد، وروى نصر بن علي عن أبيه عن أبي عمرو " فنجي " بنون واحدة ساكنة الياء خفيفة الجيم، فهذا غلط، لأنا قد بينا ان النون، لا تدغم في الجيم، لما بيناه. اخبر الله تعالى ان الرسل لما يئسوا من فلاح القوم وعلموا ان القوم لقوهم بالتكذيب ونسبوهم إلى الكذب، لان التكذيب نسبة القائل إلى الكذب، وضده التصديق والاستيئاس واليأس انقطاع الطمع " جاءهم نصرنا " اي أتاهم نصر الله باهلاك من كذبهم ولا يرد بأسنا فالبأس شدة الامر على النفس يقال له بأس في الحرب والبئيس الشجاع لشدة أمره. ومنه البؤس الفقر والبائس الفقير " عن القوم المجرمين " يعني المخطئين الذين اقترفوا السيئات.


1- مر هذا البيت في 1: 205، 2: 296، 4: 373 وقد روي (المشدد) بدل (المسرد).

2- قائله أبو ذؤيب الهذلي، ديوان الهذليين 1: 164، واللسان (دهم) وأمالي السيد المرتضى 1: 616.

3- سورة النحل آية 124.

4- سورة الكهف آية 18.