الآية 80
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾
أخبر الله تعالى عن اخوة يوسف حين آيسوا من تسليم أخيهم إليهم، فاليأس ضد الطمع، يقال: يئس يأسا واستيأس استيئاسا، فهو يائس، ومستيئس، وآيس يأس مثله. وقوله " خلصوا نجيا " أي انفردوا من غير أن يكون معهم غيرهم ممن ليس منهم، وهذا من عجيب فصاحة القرآن الخارقة للعادة لان بقوله " خلصوا " دل على ما قلناه من معنى الكلام الطويل. واصل الخلوص حصول الشئ من غير شائب فيه من غيره، كخلوص الذهب من الشئاب، وسمي الخلاص لذلك، وقوله " نجيا " مصدر يدل بلفظه على القليل والكثير، والواحد والجمع. والنجوى مثله، ولذلك قال تعالى في الواحد " وقربناه نجيا " (1) وفي الجمع " خلصوا نجيا " قال الشاعر:
إني إذا ما القوم كانوا أنجيه * واضطرب القوم اضطراب الارشيه
هناك أوصيني ولا توصي بيه (2)
والمناجاة رفع المعنى من كل واحد إلى صاحبه على وجه خفي. واصل النجو الارتفاع من الأرض والمناجاة المسارة ونجي جمعه أنجية، وهم يتناجون. و " قال كبيرهم " يعني أكبرهم، وقال قتادة وابن إسحاق: هو روبيل، فإنه كان أكبرهم سنا. وقال مجاهد: هو شمعون، وكان أكبرهم عقلا وعلما دون السن. والأول أليق بالكلام والظاهر: " ألم تعلموا أن أباكم قد اخذ عليكم موثقا من الله " يعني أما علمتم أن أباكم قد حلفكم وأقسمتم له بالله في حفظ أخيكم، وقبل هذا ما فرطتم في يوسف أي قصرتم في حفظه. واصل التفريط التقديم من قوله صلى الله عليه وسلم (انا فرطكم على الحوض) أي متقدمكم. والموثق والايثاق: العهد الوثيق و (ما) في قوله " ما فرطتم " يحتمل ثلاثة أوجه من الاعراب:
أحدها: أن تكون منصوبة ب? (تعلموا)، كأنه قال ألم تعلموا تفريطكم في يوسف.
الثاني: رفع بالابتداء والخبر (من قبل).
الثالث: أن تكون صلة لا موضع لها من الاعراب، لأنها لم تقع موقع اسم معرب. وقوله " فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي " لست أقوم من موضعي الا أن " يأذن لي أبي أو يحكم الله " اي إلى أن يحكم الله. وقيل معناه بمجازاة أو غيرهما مما أرد به أخي ابن يامين على أبيه، وكانوا تناجوا بمحاربته بمحاربته فلم يتفقوا على ذلك خوفا من غم أبيهم بأن يقتل بعضهم في الحرب وقوله " وهو خير الحاكمين " اخبار من هذا القائل بأنه تعالى خير الحاكمين والفاصلين، واعتراف منه برد الامر إلى الله تعالى.
1- سورة مريم آية 52.
2- مر هذا الشعر في 1: 218 وهو في تفسير القرطبي 9: 241.