الآيات 208-220

قوله تعالى: ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ، ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ، وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ، فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ، وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ اثنتا عشرة آية في المكي والمدني الآخر، وثلاث عشرة آية فيما عداه. عدوا " الشياطين " ولم يعدها الأول. يقول الله تعالى " وما أهلكنا من " أهل " قرية " بالعذاب الذي أنزلناه عليهم فيما مضى من الأمم السالفة ﴿ الا ﴾ وكان ﴿ لها منذرون ﴾ يخوفونهم بالله ويحذرونهم معاصيه. وقوله " ذكرى وما كنا ظالمين " معناه ذاك الذي قصصناه من إنزال العذاب بالأمم الخالية " ذكرى " لكم تتعظون بها. ثم بين أن ذلك كان عدلا، ليكون أشد في الزجر، وإن الله تعالى لم يكن ظالما لاحد. وموضع " ذكرى " يجوز أن يكون نصبا بالانذار، ويجوز أن يكون رفعا بالاستئناف على ذلك (ذكرى). والذكرى: هو إظهار المعنى للنفس تقول: ذكرته ذكرى. وبين ان ذلك ليس مما ينزل به الشياطين ويغوون به الخلق، بل هو وحي من الله تعالى. ثم بين انه ليس ينبغي للشياطين أنزال ذلك. انهم لا يستطيعون على ذلك. ومعنى ينبغي لك كذا يطلب منه فعله في مقتضى العقل، فتقول: ينبغي لك أن تختار الحسن على القبيح، ولا ينبغي لك أن تختار القبيح على الحسن. واصله من البغية التي هي الطلب، وقرا الحسن و " ما تنزلت به الشياطون " بالواو، ظنا منه أنه مثل (المسلمين). وهذا لحن بلا خلاف، لأنه جمع تكسير شيطان وشياطين. والاستطاعة هي القدرة التي ينطاع بها الفعل للجارحة. ثم قال: " انهم " يعني الشياطين " عن السمع لمعزولون " وقيل: معناه إنهم عن عن استراق السمع من السماء لمعزولون. وقيل: عن سمع القرآن - في قول قتادة - لمعزولون معناه منحون. فالعزل تنحية الشئ عن الموضع إلى خلافه، وهو ان يزيله عن أمر إلى نقيضه، كما قال الشاعر: عزل الأمير بالأمير المبدل (1) وإنما لم ينبغ لهم ذاك لحراسة المعجزة عن أن تتموه بالباطل، لان الله إذا أراد أن يدل بها على صدق الصادق أخلصها بمثل هذه الحراسة، حتى تصح الدلالة. ثم نهى نبيه صلى الله عليه وآله والمراد به المكلفين، فقال " ولا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين " وتقديره انك إن دعوت معه إلها آخر كنت من المعذبين. ثم امره أن ينذر عشيرته الأقربين قيل: إنما خص في الذكر انذار عشيرته الأقربين، لأنه يبدأ بهم، ثم الذين يلونهم، كما قال تعالى " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " (2) لان ذلك هو الذي يقتضيه حسن التدبير: الترتيب. ويحتمل أن يكون أنذرهم بالافصاح عن قبيح ما هم عليه وعظم ما يؤدي إليه من غير تليين بالقول يقتضي تسهيل الامر لما يدعو إليه مقاربة العشيرة، بأن من نزل بهم الاغلاظ في هذا الباب أذلهم. وقيل: ذكر عشيرتك الأقربين أي عرفهم إنك لا تغني عنهم من الله شيئا إن عصوه. وقيل: إنما خص عشيرته الأقربين لأنه يمكنه أن يجمعهم ثم ينذرهم، وقد فعل صلى الله عليه وآله ذلك. والقصة بذلك مشهورة فإنه روي أنه أمر صلى الله عليه وآله عليا بأن يصنع طعاما ثم دعا عليه بني عبد مناف وأطعمهم الطعام. ثم قال لهم: أيكم يؤازرني على هذا الامر يكن وزيري وأخي ووصيي، فلم يجبه أحد إلا علي (ع) والقصة في ذلك معروفة. ثم أمره صلى الله عليه وآله بأن يخفض جناحه للمؤمنين الذين اتبعوه، ومعناه ألن جانبك وتواضع لهم، وحسن أخلاقك معهم - ذكره ابن زيد - ثم قال " فان عصوك " يعني أقاربك بعد انذارك إياهم وخالفوك فيما تدعوهم إليه إلى ما يكرهه الله، فقل لهم " اني برئ مما تعملون " أي من أعمالكم القبيحة وعبادتكم للأصنام. والبراءة المباعدة من النصرة عند الحاجة، فإذا برئ من عملهم فقد تباعد من النصرة لهم أو الموالاة. ثم أمره أن يتوكل على العزيز الرحيم ومعناه أن يفوض أمره إلى من يدبره. والتوكل على الله من الايمان، لأنه أمر به، وحث عليه " على العزيز الرحيم " يعني القادر الذي لا يغالب، ولا يعاز الكبير الرحمة الواسع النعمة على خلقه " الذي يراك " يا محمد " حين تقوم وتقلبك في الساجدين " أي تصرفك في المصلين بالركوع والسجود والقيام والقعود - في قول ابن عباس وقتادة - وفي رواية أخرى عن ابن عباس: إن معناه إنه أخرجك من نبي إلى نبي حين أخرجك نبيا. وقيل: معناه يراك حين تصلي وحدك، وحين تصلي في جماعة. وقال قوم من أصحابنا: إنه أراد تقلبه من آدم إلى أبيه عبد الله في ظهور الموحدين، لم يكن فيهم من يسجد لغير الله. والرؤية - ههنا هي ادراك البصر، دون رؤية القلب، لان (رأيت) بمعنى علمت، لا يتعدى إلى مفعول واحد، فهي من رؤية البصر، ثم قال " إنه هو السميع العليم " أي يسمع ما تتلو في صلاتك، العليم بما تضمر فيها في قلبك. وقيل معنى " وتوكل على العزيز الرحيم " ليظهرك على كيد أعدائك الذين عصوك فيما أمرتهم به. وقرأ ابن عامر ونافع " فتوكل " بالفاء، لأنها في مصاحف أهل المدينة والشام كذلك. الباقون بالواو، وكذلك هو في مصاحفهم. والتوكل على الله: هو أن يقطع العبد جميع أماله من المخلوقين إلا منه تعالى، ويقطع رغبته من كل أحد إلا إليه، فإذا كان كذلك رزقه الله من حيث لا يحتسب.


1- مر في 7 / 97، 456.

2- سورة 9 التوبة آية 124.