الآيات 192-207

قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ، وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ، أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ، كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ، أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ، أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ، مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾

القراءة:

قرأ ابن عامر وأهل الكوفة الا حفصا ويعقوب " نزل " به بتشديد الزاي وفتحها ﴿ الروح الأمين ﴾ بالنصب فيهما، الباقون بالتخفيف والرفع فيهما. وقرأ ابن عامر ﴿ أو لم تكن ﴾ بالتاء ﴿ آية ﴾ بالرفع. الباقون بالياء ونصب ﴿ آية ﴾ من شدد الزاي، فلقوله " فإنه نزل على قلبك بإذن الله " (1) ﴿ وانه لتنزيل رب العالمين ﴾ ومن خفف، فلان التنزيل فعل الله، وهذا فعل جبرائيل، يقال: نزل الله جبرائيل، ونزل جبرائيل. فاما قوله ﴿ فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا ﴾ بالتشديد، فلأجل حذف الباء، لأنك تقول نزلت به وأنزلته. ومن شدد فإنه أضاف الفعل إلى الله. ومن خفف أضاف الفعل إلى جبرائيل (ع) ومن قرأ ﴿ أو لم تكن ﴾ بالتاء ورفع ﴿ آية ﴾ جعلها اسم (كان) وخبره ﴿ أن يعلمه ﴾ لان (ان) مع الفعل بمنزلة المصدر، وتقديره: أو لم تكن لهم آية معجزة ودلالة ظاهرة علم بني إسرائيل بمحمد في الكتب. يعني كتب الأنبياء (ع) قبله أنه نبي، وأن هذا القرآن من عند الله، لكنه لما جاءهم ما عرفوه على بصيرة كفروا به. ومن قرأ بالياء ونصب (آية) جعلها خبر (كان) واسمه (أن يعلمه) وهو الأقوى في العربية، لان (آية) نكرة، و (أن يعلمه) معرفة، وإذا اجتمعت معرفة ونكرة اختير أن يكون المعرفة اسم (كان) والنكرة خبرها، وسيبويه لا يجيز غير ذلك إلا في ضرورة الشعر كقول حسان:

كأن سبيئة من بيت رأس * يكون مزاجها عسل وماء (2)

من بيت رأس معناه من بيت رئيس، فسمى السيد رأسا، قال عمرو ابن كلثوم. برأس من بني جشم بن عمرو (3) وبيت رأس بيت بالشام، تتخذ فيه الخمور. والهاء في قوله " نزله... وانه لتنزيل " كناية عن القرآن في قول قتادة. وصفه الله تعالى أنه تنزيل من رب العالمين الذي خلق الخلائق. ووصفه بأنه تنزيل من رب العالمين، تشريف له وتعظيم لشأنه. ثم قال " نزل به الروح الأمين " من خفف أسند الفعل إلى جبرائيل، ولذلك رفعه. ومن ثقل أسنده إلى الله تعالى، ونصب ﴿ الروح الأمين ﴾ على أنه مفعول به. والروح الأمين جبرائيل (ع). وإنما قال ﴿ على قلبك ﴾ لأنه بقلبه يحفظه فكأنه المنزل عليه. و (الروح الأمين) جبرائيل (ع) في قول ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك وابن جريج. ووصف بأنه (روح) من ثلاثة وجوه:

أحدها: انه تحيا به الأرواح بما ينزل من البركات.

الثاني: لان جسمه روحاني.

الثالث: ان الحياة عليه أغلب، فكأنه روح كله. وقوله ﴿ على قلبك لتكون من المنذرين ﴾ أي انزل هذا القرآن على قلبك لتخوف به الناس وتنذرهم. ثم عاد إلى وصفه فقال ﴿ وإنه لفي زبر الأولين ﴾ ومعناه إن ذكر القرآن في كتب الأولين على وجه البشارة به، لا لان الله أنزله على غير محمد صلى الله عليه وآله. وواحد (الزبر) زبور، وهي الكتب، تقول: زبرت الكتاب أزبره زبرا إذا كتبته. واصله الجمع، ومنه الزبرة الكتبة، لأنها مجتمعة. ثم قال تعالى ﴿ أولم يكن لهم آية ﴾ اي دلالة في علم بني إسرائيل واضحة على صحة أمره. ومن حيث أن مجيئه على ما تقدمت البشارة به بجميع أوصافه لا يكون إلا من جهة علام الغيوب. وقيل: من علماء بني إسرائيل عبد الله ابن سلام - في قول ابن مسعود وابن عباس ومجاهد - ثم قال " ولو نزلناه " يعني القرآن " على بعض الأعجمين " قيل: معناه على أعجم من البهائم أو غيره ما آمنوا به - ذكره عبد الله بن مطيع - وقيل: معناه " لو نزلناه على " رجل أعجم اللسان ما آمنوا به ولتكبروا عليه، لأنه من غيرهم، وأن المعجزة تفارقه، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وآله حين لم يؤمنوا به، ولم يقبلوا منه. ونقيض الأعجم الفصيح، والأعجم الذي يمتنع لسانه من العربية. والعجمي نقيض العربي، وهو نسبة الولادة، قال الشاعر:

من وائل لا حي يعدلهم * من سوقة عرب ولا عجم (4)

وإذا قيل أعجمي، فهو منسوب إلى أنه من الأعجمين الذين لا يفصحون كما قال العجاج: والدهر بالانسان دواري (5) فنسبه إلى أنه من الدوارين بالانسان. وقوله " كذلك سلكناه في قلوب المجرمين " فالهاء كناية عن القرآن. ومعناه أقررناه في قلوبهم باخطاره ببالهم لتقوم به الحجة عليهم، ولله لطف يوصل به المعنى في الدليل إلى القلب، فمن فكر فيه أدرك الحق به. ومن أعرض عنه كان كمن عرف الحق وترك العمل به في لزوم الحجة عليه. والفرق بين من أدرك الحق لسلوكه في القلب، وبين من أدرك الحق بالاضطرار إليه في القلب، أن الاضطرار إليه يوجد الثقة به فيكون، صاحبه عالما به. واما بسلوكه، فيكون مع الشك فيه. وقال الحسن وابن جريج، وابن زيد: كذلك " سلكناه " أي الكفر. ولا وجه لذلك، لأنه لم يجر ذكره، ولا حجة فيه وإنما الحجة في القرآن واخطاره بالبال، فهو أحسن في التأويل. وقوله " لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم " اخبار منه تعالى عن قوم من الكفار أنهم يموتون على كفرهم بأنهم لا يؤمنون حتى يشاهدوا العذاب المؤلم، فيصيرون عند ذلك ملجئين إلى الايمان، ومعنى " حتى يروا العذاب " أي حتى يشاهدوا أسبابه من نيران مؤججة لهم يساقون إليها، لا يردهم عنها شئ. ويحتمل حتى يعلموه في حال حلوله بهم علم ملابسته لهم. ثم قال تعالى " فيأتيهم بغتة " ومعناه: إن العذاب الذي يتوقعونه ويستعجلونه يجيئهم فجأة. والبغتة حصول الامر العظيم الشأن من غير توقع بتقديم الأسباب، وقيل البغتة الفجأة. والبادرة، بغته الامر يبغته بغتا وبغتة قال الشاعر: وأفضع شئ حين يفجؤك البغت (6) واتاه الامر بغتة نقيض أتاه عن تقدمة " وهم لا يشعرون " أي لا يعلمون والشعور هو العلم بما يلطف، لطف الشعر. ثم اخبر تعالى انه إذا جاءهم العذاب بغتة قالوا " هل نحن منظرون " أي مؤخرون، فقال الله تعالى " أفبعذابنا يستعجلون " على وجه التوبيخ لهم والانكار عليهم. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله " أفرأيت " يا محمد " إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون " به من العذاب " ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " معناه انه لم يغن عنهم ما كانوا يمتعون، لازديادهم من الآثام، واكتسابهم من الاجرام، أي أي شئ يغني عنهم ما يمتعون به من النعم، لأنه فان كله، والاغناء عن الشئ صرف المكروه عنه بما يكفي عن غيره. والغنى به نقيض الغنى عنه، فالاغناء عنه الصرف عنه، والاغناء به الصرف به، والامتاع احضار النفس ما فيه اللذة بادراك الحاسة، يقال: أمتعه بالرياحين والطيب، وامتعه بالنزه والبساتين، وأمته بالمال والبنين، وأمتعه بالحديث الطريف الظريف.


1- سورة 2 البقرة آية 97.

2- (اللسان (رأس).

3- ملحق ديوانه امرئ القيس اخبار عمرو بن كلثوم: 226 وروايته: برأس من بني جشم بن بكر * ندق به السهولة والحزونا.

4- تفسير الطبري 19 / 64.

5- مر تخريجه في 4 / 377، 505.

6- مر تخريجه في 4 / 122، 507 و 6 / 204.