الآيات 36-40
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ، ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ، قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾
القراءة:
قرأ حمزة ويعقوب " أتمدوني " بنون واحدة مشددة على الادغام وياء ثابتة في الوصل والوقف. الباقون بنونين. اخبر الله تعالى إن الهدية التي أنفذت بها المرأة، لما وصلت إليه، قال لموصلها " أتمدونني بمال " والامداد الحاق الثاني بالأول، والثالث بالثاني إلى حيث ينتهي. والمعنى لست أرغب في المال الذي تمدونني به، وإنما أرغب في الايمان الذي دعوتكم إليه والاذعان بالطاعة لله ورسوله. ثم قال " فما آتاني الله خير مما آتاكم " بالتمكين من المال الذي لي أضعافه واضعاف أضعافه إلى ما شئت منه. ثم قال لهم " بل أنتم بهديتكم تفرحون " أي ما يهدى إليكم " لأنكم أهل مفاخرة في الدنيا ومكاثرة. وقيل بهديتكم التي أهديتموها إلي تفرحون. والهدية العطية على جهة الملاطفة من غير مئابة، تهدى هدية، لأنها تساق إلى صاحبها على هداي، فالأصل الهداية وهي الدلالة على طريق الرشد. ثم حكى ما قال سليمان لرسولها الذي حمل الهدية " ارجع إليهم " وقل لهم " فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها " أي لا طاقة لهم بهم ولا يقدرون على مقاومتهم " ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون " فالذليل هو الناقص القوة في نفسه بما لا يمكنه أن يدفع غيره عن نفسه. والصاغر هو الذليل الصغير القدر المهين، يدل على معنى التحقير بشيئين، ونقيض الذليل العزيز وجمعه أعزة ، . جمع الذليل أذلة. ثم حكى تعالى أن سليمان قال لاشراف عسكره وأماثلة جنده " أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين " فاختلفوا في الوقت الذي قال سليمان " أيكم يأتيني بعرشها " فقال قوم قال ذاك حين جاءه الهدهد بالخبر، وهو الوقت الأول لأنه يبين به صدق الهدهد من كذبه، ثم كتب الكتاب بعد - في قول ابن عباس - وقال وهب بن منية: إنما قال ذلك بعد مجئ الرسل بالهدية. واختلفوا في السبب الذي لأجله خص بالطلب فقيل لأنه أعجبته صفته فأحب أن يراه، وكان من ذهب وقوائمه مكلل من جوهر، على ما ذكره قتادة. وقال ابن زيد: لأنه أحب أن يعاينها ويختبر عقلها إذا رأته أتثبته أم تنكره. وقيل: ليريها قدرة الله في معجزة، يأتي بها في عرشها. واختلفوا في معنى " مسلمين " فقال ابن عباس: معناه طائعين مستسلمين وقال ابن جريج: هو من الاسلام الذي هو دين الله الذي أمر به عباده. ثم حكى تعالى انه أجاب سليمان عفريت من الجن. ومعنى عفريت مارد قوي داهية، يقال: عفريت وعفرية، ويجمع عفاريت وعفاري. قال سيبويه: هو مأخوذ من العفر. والمعنى كل سديد في مذهبه من الدهاء والنكارة والنجابة يقال: رجل عفرية نفرية على وزن (زبينة) لواحد الزبانية. وقوله " انا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك " أي من مجلسك الذي تقضي فيه - في قول قتادة - " وإني عليه " يعني على الاتيان به في هذه المدة " لقوي أمين " وفى ذلك دلالة على بطلان قول من يقول: القدرة تتبع الفعل لأنه أخبر انه قوي عليه، ولم يجئ بعد بالعرش. وقال ابن عباس: " أمين " على فرج المرأة. فقال عند ذلك " الذي عنده علم من الكتاب " قال ابن عباس وقتادة: هو رجل من الانس، كان عنده علم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب. وقيل: يا إلهنا وإله كل شئ يا ذا الجلال والاكرام، وقال الجبائي: الذي عنده علم من الكتاب سليمان (ع). وقال ذلك للعفريت ليريه نعمة الله عليه. والمشهور عند المفسرين هو الأول. وقد ذكر أن اسمه أصف بن برخيا. وقيل: هو الخضر. وقال مجاهد: اسمه أسطوع. وقال قتادة: اسمه مليخا. وقوله " انا آتيك به قبل ان يرتد إليك طرفك " قيل في معناه قولان:
أحدهما: قال مجاهد: إن ذلك على وجه المبالغة في السرعة.
الثاني: قال قتادة: معناه قبل أن يرجع إليك ما يراه طرفك. وقيل: قبل ان يرجع طرفك خاسئا إذا فتحتها وأدمت فتحها. وقيل: قبل أن تفتحها وتطبقها. وقيل: حمل العرش من مأرب إلى الشام في مقدار رجع البصر. وقيل: شقت عنه الأرض فظهر. وقيل يجوز أن يكون الله أعدمه ثم أوجده في الثاني بلا فصل بدعاء الذي عنده علم من الكتاب، وكان مستجاب الدعوة إذا دعا باسم الله الأعظم. ويكون ذلك معجزة له. وقال قوم: كان ذلك معجزة لسلمان. وفي الكلام حذف، لان تقديره " أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " فأتاه به " فلما رآه " سليمان " مستقرا عنده قال " معترفا بنعم الله عليه " هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر " أي أأشكر على نعمه أم أجحدها. ثم قال سليمان " ومن شكر فإنما يشكر لنفسه " لان ثواب ذلك يعود عليه ومن جحد نعم الله فإنما يضر نفسه، لان عقاب ذلك يحل به " فان الله غني " عن شكره وعن كل شئ. " كريم " في انعامه على خلقه. وقرأ أبو عمرو ونافع وعاصم - في رواية حفص - ﴿ فما أتاني الله ﴾ - بفتح الياء - في الوصل. الباقون " فما آتان " بغير ياء في الوصل.