الآيات 11-15

قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ، فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ﴾

حكى الله تعالى عن أم موسى أنها قالت لأخت موسى: قصيه أي اتبعي اثره، يقال قصه يقصه قصا إذ اتبع اثره، ومنه القصص، لأنه حديث يتبع بعضه بعضا يتبع الثاني للأول، والاقتصاص اتباع الجاني في الاخذ بمثل جنايته في النفس " فبصرت به عن جنب " معنى (فبصرت به) رأته، وهو لا يتعدى إلا بحرف الجر. والرؤية تتعدى بنفسها، وقال مجاهد: معناه عن بعد، ومثله أبصرته عن جنابة قال الأعشى:

أتيت حريثا زائرا عن جنابة * فكان حريث عن عطائي جامدا (1)

أي عن بعد، وقيل: معنى " عن جنب " عن مكان جنب، وهو الجانب لان الجنب صفة وقعت موقع الموصوف لظهور معناه، وكان ذلك أحسن وأوجز " وهم لا يشعرون " قال قتادة: معناه وآل فرعون لا يشعرون انها أخته. وقوله " وحرمنا عليه المواضع " وهي جمع مرضعة ومعناه منعناه منهن وبغضناهن إليه، فكان ذلك كالمنع والنهي، لا أن هناك نهيا عن الفعل، قال الشاعر:

جاءت لتصرعني فقلت لها اقصري * اني امرء صرعي عليك حرام (2)

اي ممتنع فاني فارس أمنعك من ذلك، ومثله قولهم: فلان حرم على نفسه كذا بالامتناع منه، كالامتناع بالنهي. وقوله " من قبل " أي من قبل رده على أمه " فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون " معناه يضمنونه برضاعه والقيام عليه، وينصحونه في ذلك، فقيل لأخته من أين قلت: انهم ناصحون له أعرفت أهله، فقالت: إنما عنيت ناصحون للملك. والنصح اخلاص العمل من شائب الفساد، وهو نقيض الغش: نصح ينصح نصحا، فهو ناصح في عمله، وناصح في نفسه في توبته إذا أخلصها. وقوله " فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن " قيل: ان فرعون سأل أمه كيف يرتضع منك، ولم يرتضع من غيرك ؟! قالت: لأني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أكاد أؤتى بصبي إلا ارتضع مني. وبين تعالى انه إنما فعل ذلك " كي تقر عينها " يعني عين أمه، فرده عليها " ولتعلم ان وعد الله حق " لابد من كونه. ثم قال " ولكن أكثرهم " أي الخلق " لا يعلمون " حقيقة ما يراد بهم. وقيل: من قوم فرعون ما علمته أم موسى، ومن لطيف تدبير الله تسخير فرعون لعدوه حتى تولى تربيته. وقوله " ولما بلغ أشده واستوى " قال قتادة: أشده ثلاث وثلاثون سنة، واستوائه أربعون سنة. وقيل استواء قوته ﴿ آتيناه ﴾ يعني أعطيناه ﴿ حكما وعلما ﴾ قال السدى: يعني النبوة. وقال عكرمة: يعني العقل. وقال مجاهد: الفرقان. والحكم الخبر بما تدعو إليه الحكمة. والمعنى علمناه من الحكمة ما تقتضي المصلحة، وأوحينا إليه بذلك. ثم قال: ومثل ما فعلنا به نجزي أيضا من فعل الاحسان. وفعل الطاعات والافعال الحسنة. ثم اخبر تعالى ان موسى ﴿ دخل المدينة ﴾ يعني مصر، وقيل: غيرها ﴿ على حين غفلة من أهلها ﴾ قيل: إنه كان وقت القائلة. وقيل: لأنهم غفلوا عن ذكره لبعد عهدهم به. وقيل: انه كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم. وقوله ﴿ فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه ﴾ قال مجاهد: يعني من شيعته إنه كان إسرائيليا، والآخر إنه كان قبطيا. وقال ابن إسحاق: كان أحدهما مسلما، والآخر كافرا ﴿ فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ﴾ أي استنصره لينصره ﴿ فوكزه موسى ﴾ أي دفع في صدره، وجميع كفه (ولكزه) مثل وكزه ولهزه ﴿ فقضى عليه ﴾ أي مات، فقال عند ذلك موسى ﴿ هذا من عمل الشيطان ﴾ أي من اغوائه حتى زدت من الايقاع به، وإن لم اقصد قتله. وقيل: ان الكناية عن المقتول، فكأنه قال: ان المقتول من عمل الشيطان اي عمله عمل الشيطان. ثم وصف الشيطان بأنه ﴿ عدو ﴾ للبشر ظاهر العداوة. وقوله ﴿ هذا من شيعته وهذا من عدوه ﴾ إشارة إلى الرجلين اللذين أحدهما من شيعة موسى، والآخر من عدوه إنما هو على وجه الحكاية للحاضر إذا نظر اليهما الناظر قال هذا من شيعته وهذا من عدوه.


1- ديوانه * (دار بيروت) * 43.

2- مر هذا البيت في 3 / 489.