الآية 95

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة ويعقوب " فجزاء " منونا " مثل " رفع. الباقون بالإضافة. وقرأ ابن عامر وأهل المدينة " أو كفارة " بغير تنوين " طعام " بالخفض. الباقون بالتنوين وأجمعوا على جمع مساكين. وقرأ بعضهم (أو عدل ذلك بالكسر) قال الأخفش: وهو الوجه، لان العدل هو المثل. والعدل مصدر عدلت هذا بهذا عدلا حسنا. والعدل أيضا المثل " ولا يقبل منها عدل " (1) أي مثل. قال الفراء: العدل - بفتح العين - ما عدل الشئ من غير جنسه - وبكسر العين - المثل، تقول: عندي غلام عادل غلامك - بالكسر - لأنه من جنسه وان أردت قيمته دراهم، قلت: عندي عدل غلامك، لأنها من غير جنسه. قال أبو علي الفارسي: حجة من رفع المثل أنه صفة للجزاء والمعنى فعليه جزاء من النعم مماثل المقتول. والتقدير فعليه جزاء أي فاللازم له أو فالواجب عليه جزاء من النعم مماثل ما قتل من الصيد. وقوله " من النعم " على هذه القراءة صفة للنكرة التي هي (جزاء) وفيه ذكر، ويكون مثل صفة للجزاء لان المعنى عليه جزاء مماثل للمقتول من الصيد من النعم. والمماثلة في القيمة أو الخلقة على اختلاف الفقهاء في ذلك. ولا ينبغي إضافة (جزاء) إلى المثل ألا ترى انه ليس عليه جزاء مثل ما قتل في الحقيقة، وإنما عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، ولا جزاء عليه لمثل المقتول الذي لم يقتله. وإذا كان كذلك علمت أن الجزاء لا ينبغي أن يضاف إلى (مثل) ولا يجوز أن يكون قوله " من النعم " على هذه القراءة متعلقا بالمصدر كما جاز أن يكون الجار متعلقا به في قوله " وجزاء سيئة سيئة مثلها " (2) ب? (مثلها) لأنك قد وصفت الموصول، وإذا وصفته لم يجز أن تعلق به بعد الوصف شيئا كما انك إذا عطفت عليه أو أكدته لم يجز أن تعلق به شيئا بعد العطف عليه والتأكيد له. فأما في قراءة من أضاف الجزاء إلى المثل، فان قوله " من النعم " يكون صفة للجزاء كما كان في قول من نون، ولم يضف صفة له. ويجوز فيه وجه آخر لا يجوز في قول من نون ووصف: وهو أن يقدره متعلقا بالمصدر. ولا يجوز على هذا القول أن يكون فيه ذكر كما تضمن الذكر لما كان صفة. وإنما جاز تعلقه بالمصدر على قول من أضاف، لأنك لم تصف الموصول كما وصفته في قول من نون، فيمتنع تعلقه به. وأما من أضاف الجزاء إلى (مثل) فإنه وإن كان جزاء المقتول لا جزاء مثله فإنهم مثل قد يقولون: أنا أكرم مثلك. يريدون أنا أكرمك، وكذلك إذا قال (فجزاء مثل) فالمراد ما قتل، فإذا كان كذلك كانت الإضافة في المعنى كغير الإضافة لان المعنى فعليه جزاء ما قتل. ولو قدرت الجزاء تقدير المصدر وأضفته إلى المثل كما تضيف المصدر إلى المفعول به لكان في قول من جر (مثلا) على الاتساع الذي وصفناه ألا ترى أن المعنى " فجزاء مثل " أي يجازى مثل ما قتل، والواجب عليه في الحقيقة جزاء المقتول لا جزاء مثل المقتول. خاطب الله بهذه الآية المؤمنين ونهاهم عن قتل الصيد وهم حرم وقوله " وأنتم حرم " قيل فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: وأنتم محرمون لحج أو عمرة.

الثاني: وأنتم في الحرم. يقال: أحرمنا أي دخلنا في الحرم كما يقال أنجدنا واتهمنا.

الثالث: وأنتم في الشهر الحرام. يقال أحرم إذا دخل في الشهر الحرام. قال أبو علي: الآية تدل على تحريم قتل الصيد في حال الاحرام بالحج، والعمرة وحين الكون في الحرم. وقال الرماني: يدل على الاحرام بالحج أو العمرة فقط. والذي قاله أبو علي أعم فائدة، وأما القسم الثالث فلا خلاف أنه غير مراد. وقاتل الصيد إذا كان محرما لزمه الجزاء عامدا كان في القتل أو أخطأ أو ناسيا لاحرامه أو ذاكرا. وبه قال مجاهد، والحسن - بخلاف عنه - وابن جريج، وإبراهيم، وابن زيد، وأكثر الفقهاء، واختاره البلخي والجبائي. وقال ابن عباس وعطاء والزهري واختاره الرماني: انه يلزمه إذا كان متعمدا لقتله ذاكرا لاحرامه، وهو أشبه بالظاهر. والأول يشهد به روايات أصحابنا. واختلفوا في مثل المقتول فقال الحسن وابن عباس والسدي ومجاهد وعطاء والضحاك: هو أشبه الأشياء به من النعم: إن قتل نعامة فعليه بدنة، حكم النبي صلى الله عليه وآله بذلك في البدنة. وان قتل أروى (3) فبقرة. وان قتل غزالا أو أرنبا، فشاة. وهذا هو الذي تدل عليه روايات أصحابنا. وقال قوم: يقوم الصيد بقيمة عادلة ثم يشترى بثمنه مثله من النعم ثم يهدى إلى الكعبة، فإن لم يبلغ ثمن هدي كفر أو صام، وفيه خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف واختلف من قال بذلك في المكان الذي يقوم فيه الصيد، فقال إبراهيم، والنخعي وحماد، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: يقوم بالمكان الذي أصاب فيه إن كان بخراسان أو غيره. وقال ابن عامر والشعبي: يقوم بمكة أو منى. وقوله: " يحكم به ذوا عدل منكم " يعني شاهدين عدلين فقيهين يحكمان بأنه جزاء مثل ما قتل من الصيد. وقوله: " هديا بالغ الكعبة " ف? (هديا) نصب على المصدر. ويحتمل أن يكون نصبا على الحال، و (بالغ الكعبة) صفة له وتقديره يهديه هديا يبلغ الكعبة وقوله " بالغ الكعبة " فهو وإن كان مضافا إلى المعرفة فالنية فيه الانفصال، كما نقول هذا ضارب زيد، فيمن حذف النون ولم يكن قد فعل، فإنه يكون نكرة، والهدي يجب أن يكون صحيحا بالصفة التي تجزي في الأضحية، وهو قول أبي علي. وقال الشافعي يجوز في الهدي ما لا يجوز في الأضحية. وان قتل طائرا أو نحوه قال أبو علي عليه دم شاة. وعندنا فيه دم. وقال قوم يجوز ان يهدي سخلة أو جديا. والنعم هي الإبل والبقر والغنم. وقوله " أو كفارة طعام مسكين " فمن رفع (طعام مساكين) جعله عطفا على الكفارة عطف بيان لان الطعام هو الكفارة، ولم يضف الكفارة إلى الطعام، لأنها ليست للطعام وإنما هي لقتل الصيد، فلذلك لم يضف الكفارة إلى الطعام. ومن أضافها إلى الطعام، فلانه لما خير المكفر بين ثلاثة أشياء: الهدى، والطعام، والصيام أجاز الإضافة لذلك، فكأنه قال: كفارة طعام لا كفارة هدي، ولا كفارة صيام، فاستقامت الإضافة لكون الكفارة من هذه الأشياء وقيل في معناه قولان:

أحدهما: يقوم عدله من النعم ثم يجعل قيمته طعاما في قول عطا. وهو مذهبنا.

وقال قتادة: يقوم نفس الصيد المقتول حيا ثم يجعل طعاما. وقوله: " أو عدل ذلك صياما " نصب صياما على التمييز وفي معناه قولان:

أحدهما: لكل مد يقوم من الطعام يوم في قول عطاء.

وقال غيره: عن كل مدين يوم وهو مذهبنا. وقال سعيد بن جبير: يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة أيام. وقوله " ليذوق وبال امره " يعني عقوبة ما فعله ونكاله. وقال المغربي: الوبال من الطعام الوبيل الذي لا يستمري، أو لا يوافق، وهو قول الأزهري قال كثير:

فقد أصبح الراضون إذ أنتم بها * مشوم البلاد يشتكون وبالها

وقوله: " عفا الله عما سلف " قيل في معناه قولان:

أحدهما: قال الحسن: عفا الله عما سلف من امر الجاهلية.

وقال آخرون: عما سلف من الدفعة الأولى في الاسلام. وقوله: " ومن عاد فينتقم الله منه " اختلفوا في لزوم الجزاء بالمعاودة على قولين:

أحدهما: قال عطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير ومجاهد: يلزمه الجزاء بالمعاودة وهو قول بعض أصحابنا.

الثاني: قال ابن عباس، وشريح، والحسن، وإبراهيم، بخلاف عنه: لا جزاء عليه وينتقم الله منه، وهو الظاهر من مذهب أصحابنا، واختار الرماني الأول. وبه قال أكثر الفقهاء، قال: لأنه لا ينافي الانتقام منه. واختلفوا في (أو) في الآية هل هي على جهة التخيير أم لا؟ على قولين:

أحدهما: قال ابن عباس، والشعبي، وإبراهيم، والسدي وهو الظاهر في رواياتنا انه ليس على التخيير لكن على الترتيب. وإنما دخلت (أو) لأنه لا يخرج حكمه على أحد الثلاثة، على أنه إن لم يجد الجزاء فالاطعام وان لم يجد الاطعام فالصيام.

وفي رواية أخرى: عن ابن عباس، وعطاء والحسن وإبراهيم - على خلاف عنه - واختاره الجبائي، وهو قول بعض أصحابنا انه على التخيير. وقوله " والله عزيز ذو انتقام " معناه قادر لا يغالب " ذو انتقام " معناه ينتقم ممن يتعدا أمره ويرتكب نهيه. وليس في الآية دليل على العمل بالقياس، لان الرجوع إلى ذوي عدل في تقويم الجزاء مثل الرجوع إلى المقولين في قيم المتلفات، ولا تعلق لذلك بالقياس.

1- سورة 2 البقرة آية 123.

2- سورة 42 الشورى آية 40.

3- " الأروى " إناث الوعل، وهو اسم جمعها وواحدها (أرية) بضم الهمزة وسكون الراء وكسر الواو وفتح الياء المشددة.