الآيات 61-70
قوله تعالى: ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ، أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ، إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ، فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِّنْ حَمِيمٍ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ، إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾
يقول الله تعالى في تمام الحكاية عن قول المؤمن للكافر " لمثل هذا " يعني لمثل ثواب الجنة ونعيمها " فليعمل العاملون " في دار التكليف، ويحسن من العامل أن يعمل العمل للثواب إذا أوقعه على الوجه الذي تدعو إليه الحكمة من وجوب أو ندب، قال الرماني: ألا ترى أنه لو عمل القبيح ليثاب على ما تدعو إليه الحكمة لاستحق الثواب إذا خلص من الاحباط. وهذا الذي ذكره غير صحيح، لان القبيح لا يجوز أن يستحق عليه الثواب على وجه وإن عرض في القبيح وجوه كثيرة من وجوه الحسن، فإنه لا يعتد بها، فان علمنا في ما ظاهره القبيح أنه وقع على وجه يستحق فيه الثواب، علمنا أنه خرج من كونه قبيحا. ومثال ذلك إظهار كلمة الكفر عند الاكراه عليها أو الانكار لكون نبي بحضرته لمن يطلبه ليقتله فان هذا وإن كان كذبا في الظاهر فلابد أن يوري المظهر بما يخرجه عن كونه كاذبا، ومتى لم يحسن التورية منع الله من إكراهه عليه. وفي الناس من يقول: يجب عليه الصبر على القتل، ولا يحسن منه الكذب، ومتى كان من يحسن التورية، ولم يور كان القول منه كذبا وقبيحا ولا يستحق به الثواب، فاما الاكراه على أخذ مال الغير وإدخال ضرر عليه دون القتل، متى كان قد علمنا بالشرع وجوب فعل ذلك عند الاكراه أو حسنه علمنا أنه خرج بذلك عن كونه قبيحا وإن الله تعالى ضمن من العوض عليه ما يخرجه عن كونه قبيحا، كما تقول: في ذبح البهائم، ومتى لم يعلم بالشرع ذلك، فإنه يقبح إدخال الضرر على الغير واخذ ماله، فأما إدخال الضرر على الغير ونفسه ببذل مال أو تحمل خراج ليدفع بذلك عن نفسه ضررا أعظم منه، فإنه يحسن، لأنه وجه يقع على الاثم فيصير حسنا، وهذا باب أحكمناه في كتاب الأصول. لا يحتمل هذا الموضع أكثر من هذا. وقوله " أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم " إنما جاز ذلك مع أنه لا خير في شجرة الزقوم لامرين:
أحدهما: على الحذف بتقدير أسبب هذا الذي أدى إليه خير أم سبب أدى. لي النار، كأنهم قالوا هو فيه خير، لما عملوا ما أدى إليه. والنزل الفضل طعام له نزل، ونزل أي فضل وريع.
وقيل: معناه خير نزلا من الانزال التي تقيم الأبدان وتبقى عليها الأرواح و (الزقوم) قيل: هو ثمر شجرة منكرة جدا من قولهم يزقم هذا الطعام إذا تناوله على تكره ومشقة شديدة. وقيل: شجرة الزقوم ثمرة مرة خشنة منتنة الرائحة. وقوله " إنا جعلناها فتنة لظالمين " معناه إنا جعلنا شجرة الزقوم محنة لشدة التعبد، وقال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال المشركون: النار تحرق الشجرة، وكيف تنبت هذه في النار، فكان ذلك تغليظا للمحنة، لأنه يحتاج إلى الاستدلال على أنه قادر لا يمتنع عليه أن يمنع النار من احراقها حتى تنبت الشجرة فيها. وقيل: معناه إنها عذاب للظالمين من قوله " يومهم على النار يفتنون " (1) أي يعذبون، وقيل: هو قول أبي جهل في التمر والزبد انه يتزقمه. روى أنه لما سمع هذه الآية دعا الكفار واحضر التمر والزبد وقال تعالوا نتزقم هذا بخلاف ما يهددنا به محمد. ثم قال تعالى " إنها شجرة " يعني الزقوم " تخرج في أصل الجحيم " أي تنبت في قعر جهنم " طلعها كأنه رؤس الشياطين " قيل: في تشبيه ذلك برؤس الشياطين مع أن رؤس الشياطين لم ترقط ثلاثة أقوال:
أحدها: ان قبح صورة الشياطين متصور في النفس ولذلك يقولون لشئ يستقبحونه جدا كأنه شيطان. وقال امرؤ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي * ومسنونة زرق كأنياب اغوال (2)
فشبه النصول بأنياب الاغوال، وهي لم تر، ويقولون: كأنه رأس شيطان وانقلب علي كأنه شيطان.
الثاني: انه شبه برأس حية يسميها العرب شيطانا، قال الراجز:
منجرد يحلف حين أحلف * كمثل شيطان الحماط أعرف (3)
الثالث: انه شبه بنبت معروف برؤس الشياطين. وقيل: قد دل الله أنه يشوه خلق الشياطين في النار حتى لو رآهم راء من العباد لاستوحش منهم غاية الاستيحاش، فلذلك يشبه برؤوسهم. ثم أخبر تعالى أن أهل النار ليأكلون من تلك الشجرة ويملئون بطونهم منها لشدة ما يلحقهم من ألم الجوع، والملا الطرح في الوعاء مالا يحتمل الزيادة عليه، فهؤلاء حشيت بطونهم من الزقوم بمالا يحتمل زيادة عليه. ثم قال " إن لهم عليها " يعني الزيادة على شجرة الزقوم " لشوبا من حميم " فالشوب خلط الشئ بما ليس منه مما هو شر منه، ويقال هذا الطعام مشوب، وقد شابه شئ من الفساد، والحميم إذا شاب الزقوم اجتمعت المكاره فيه من المرارة والخشونة ونتن الرائحة، والحرارة المحرقة - نعوذ بالله منها - والحميم الحار الذي له من الاحراق المهلك أدناه قال الشاعر:
احم الله ذلك من لقاء * أحاد أحاد في الشهر الحلال (4)
أي أدناه وحمم ريش الفرخ إذا نبت، حتى يدنو من الطيران والمحموم المقترب من حال الاحراق. وقال ابن عباس: يشربون الحميم المشروب من الزقوم أي قد شيب مع حرارته بما يشتد تكرهه. والحميم الصديق القريب أي الداني من القلب. وقوله " ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم " معناه أنهم يردون بعد ذلك إلى النار الموقدة. وفي ذلك دلالة على أنهم في وقت ما يطعمون للزقوم بمعزل عنها، كما قال " يطوفون بينها وبين حميم آن " (5) ثم حكى تعالى ان هؤلاء الكفار " ألفوا " يعني صادفوا " آباءهم ضالين " عن الطريق المستقيم الذي هو طريق الحق " فهم على آثارهم يهرعون " في الضلال أي يقلدونهم ويتبعونهم، قال أبو عبيدة: معنى يهرعون يستحثون من خلفهم. وقيل: معناه يزعجون إلى الاسراع، هرع وأهرع لغتان.
1- سورة 51 الذاريات آية 13.
2- ديوانه 162 وتفسير القرطبي 15 / 86.
3- تفسير القرطبي 15 / 87.
4- اللسان (حمم).
5- سورة 55 الرحمن آية 44.