الآيات 41-50
قوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ، فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ، يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ، بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ، لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ، وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُون﴾
القراءة:
قرأ حمزة والكسائي وخلف " ينزفون " بكسر الزاي على اسناد الفعل إليهم الباقون بفتح الزاي - على ما لم يسم فاعله - ومن فتح فإنه مأخوذ من نزف الرجل، فهو منزوف ونزيف، إذا ذهب عقله بالسكر، وانزف فهو منزف به إذا فنيت خمره، ويقال أنزف أيضا إذا سكر لما استثنى الله تعالى من جملة من يعاقبهم من الكفار المخلصين الذين أخلصوا عبادتهم لله وحده، بين ما أعد لهم من أنواع الثواب، فقال " أولئك لهم رزق معلوم " يعني عطاء جعل لهم التصرف فيه وحكم لهم به في الأوقات المستأنفة في كل وقت شيئا معلوما مقدرا. ثم فسر ذلك الرزق، فقال ذلك الرزق " فواكه " وهي جمع فاكهة وهي تكون رطبا ويابسا يتفكهون. بها وينتفعون بالتصرف فيها " وهم " مع ذلك " مكرمون " أي معظمون مبجلون، وضد الاكرام الإهانة وهي الانتقام وهم مع ذلك " في جنات النعيم " أي بساتين فيها أنواع النعيم التي يتنعمون بها " على سرر " وهو جمع سرير " متقابلين " يستمتع بعضهم بالنظر إلى وجوه بعض " يطاف عليهم بكأس من معين " أي بكأس من خمر جارية في أنهار ظاهرة للعيون - في قول الحسن وقتادة والضحاك والسدي - والكأس اناء فيه شراب. وقيل: لا يسمى كأسا إلا إذا كان فيه شراب وإلا فهو اناء. وقوله " معين " يحتمل أن يكون (فعيلا) من العين، وهو الماء الشديد الجري من أمعن في الامر إذا اشتد دخوله فيه ويحتمل أن يكون وزله (مفعولا) من عين الماء لأنه يجري ظاهرا للعين. ثم وصف الخمر الذي في الكأس، فقال " بيضاء " ووصفها بالبياض لأنها تجري في انهار كاشرف الشراب. وهي خمر فيها اللذة والامتاع فترى بيضاء صافية في نهاية الرقة واللطافة مع النورية التي لها والشفافة، لأنها على أحسن منظر. مخبر. وقال قوم: بيضاء صفة للكأس، وهي مؤنثة. واللذة نيل المشتهى بوجود ما يكون به صاحبه ملتذا. والشراب مأخوذ من الشرب. وقوله " لا فيها غول " معناه لا يكون في ذلك الشراب غول أي فساد يلحق العقل خفيا، يقال: اغتاله اغتيالا إذا أفسد عليه أمره، ومنه الغيلة وهي القتل سرا. وقال ابن عباس " لا فيها غول " معناه لا يكون فيها صداع ولا أذى، كما يكون في خمر الدنيا، وقال الشاعر:
وما زالت الكأس تغتالنا * ونذهب بالأول الأول (1)
هذا من الغيلة أي نصرع واحد بعد واحد " ولا هم عنها ينزفون " أي لا يسكرون والنزيف السكران، لأنه ينزف عقله، قال الابرد الرياحي:
لعمري لئن انزفتم أو ضحوتم * لبئس التداني كنتم آل ابحرا (2)
فالبيت يدل على أن أنزف لغة في نزف إذا سكر، لأنه جعله في مقابلة الصحو. ومن قرأ بالسكر فعلى معنى: إنهم لا ينزفون خمرهم أي لا يفنى عندهم. وقوله " وعندهم قاصرات الطرف عين " معنى قاصرات الطرف تقصر طرفهن على أزواجهن - في قول الحسن وغيره - وقال بعضهم: معنى قاصرات راضيات من قولهم: اقتصرت على كذا، ومعنى " عين " الشديدة كبياض العين الشديدة سوادها - في قول الحسن - والعين النجل وهي الواسعة العين. وقوله " كأنهن بيض مكنون " شبههن ببيض النعام يكن بالريش من الريح والغبار - في قول الحسن وابن زيد - وقال سعيد بن جبير والسدي: شبههن ببطن البيض قبل ان يقشر وقبل أن تمسه الأيدي، والمكنون المصون يقال: كننت الشئ إذا صنته، وأكننته إذا سترته من كل شئ قال الشاعر:
وهي زهراء مثل لؤلؤة * الغواص ميزت من جوهر مكنون (3)
ثم قال " فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " يعني ان أهل الجنة يقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن أحوالهم وما تفضل الله عليهم من أنواع الكرامات.
1- مجاز القرآن 2 / 169.
2- اللسان (نزف) وتفسير القرطبي 15 / 79 والطبري 23 / 31 ومجاز القرآن 2 / 169.
3- مجاز القران 2 / 170 وتفسير القرطبي 15 / 81 والطبري 23 / 34.